آيات من القرآن الكريم

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

غليظ وثقيل على سيده)، وأينما يوجهه، أي يرسله، لا يأت بخير لأنه عاجز لا يحسن التعبير ولا يفهم الكلام، فهل الموصوف بهذه الصفات الأربع يتساوى مع الموصوف بأضدادها، وهو الآمر غير الأبكم، والقادر غير العاجز الذي لا يقدر على شيء وأنه كلّ على مولاه، والعالم غير الذي لا يأتي بخير.
علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
لإعراب:
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرئ بضم الهمزة على الأصل، وبكسرها على الاتباع لكسرة نون بُطُونِ.
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً إما منصوب على المصدر، أي لا تعلمون علما، أو منصوب لأنه مفعول تَعْلَمُونَ الذي هو بمعنى (تعرفون) للاقتصار على مفعول واحد، والجملة حال.
البلاغة:
كَلَمْحِ الْبَصَرِ تشبيه مرسل مجمل.

صفحة رقم 190

المفردات اللغوية:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، وهو يختص بعلم الغيب، لا يعلمه غيره، وهو ما غاب فيهما عن العباد، بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس، وقيل: يوم القيامة، فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض. السَّاعَةِ وقت القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما، فيموت الخلق بصيحة واحدة. كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح: النظر بسرعة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أو أمرها أقرب منه لأنه بلفظ كُنْ فَيَكُونُ. والمعنى: ما أمر قيام القيامة في سرعته وسهولته إلا كلمح البصر السَّمْعَ أي الأسماع. وَالْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد وهي القلوب. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور، فتشكروا وتؤمنوا.
مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران. فِي جَوِّ السَّماءِ الفضاء بين السماء والأرض.
ما يُمْسِكُهُنَّ عند قبض أجنحتهن أو بسطها أن يقعن. إِلَّا اللَّهُ بقدرته. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي إن في تسخير الطير للطيران وتمكنها منه، وإمساكها في الهواء وخلق الجو لدلالات على الإله الواحد الخالق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون بها.
المناسبة:
بعد أن مثّل تعالى الأصنام أو الكفار بالأبكم العاجز، ومثّل نفسه بالآمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة، أردف ذلك ببيان كمال علمه وقدرته. أما كمال العلم فهو قوله تعالى:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وأما كمال القدرة فهو قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ. ومن مظاهر كمال قدرته وحكمته: خلق الإنسان في أطواره المختلفة، وتمكين الطير من الطيران في الجو، وهذا وما يأتي بعده من دلائل التوحيد.
التفسير والبيان:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم الله وحده غيب السموات والأرض، والتعبير يفيد الحصر، معناه: أن العلم بالمغيبات ليس إلا لله، وهو

صفحة رقم 191

مختص بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك. إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء. وهذا إخبار عن كمال علم الله تعالى. ثم أخبر عن كمال قدرته وأنه إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، فقال: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي وما شأن الساعة (وهي الوقت الذي تقوم فيه القيامة) في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع لأن أمره فوري الحدوث والتنفيذ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة ٢/ ١١٧ ومواضع أخرى] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨]. فالله تعالى قادر على إقامة القيامة في أسرع لحظة، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر، ذكره تقريبا للأذهان.
ونظير الآية: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [٥٤/ ٥٠] أي فيكون ما يريد كطرف العين.
وخص قيام الساعة من بين المغيبات، لكثرة الجدل حوله، وإنكاره من كثير من الناس، فهي محط الأنظار، ومحل البحث والجدل بين المنكرين والموحّدين.
والمقصود من الآية: أن شرع التحليل والتحريم إنما يحسن بمن يحيط بالعواقب والمصالح، وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بذلك، فلم تتحكمون؟! ثم ذكر تعالى دليل ذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن الله قادر على كل شيء، ومن مشتملات قدرته: إقامة الساعة في أسرع من لمح البصر أو غمضة العين.
ثم ذكر بعض مظاهر قدرته تعالى ومنته على عباده، فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. أي والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، فالإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم زوده الله

صفحة رقم 192

بالمعارف والعلوم، فرزقه عقلا يفهم به الأشياء، ويميز به بين الخير والشر، وبين النفع والضرر، وهيأ له مفاتيح المعرفة من السمع الذي يسمع به الأصوات ويدركها، والبصر الذي يبصر به الأشخاص والأشياء والفؤاد الذي يعي به الأمور، كقوله تعالى في آية أخرى: قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. قُلْ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك ٦٧/ ٢٣- ٢٤].
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا نعم الله عليكم، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله، ولتتمكنوا من عبادة ربكم، وتطيعوه فيما أمركم.
وذلك كما
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من عادى لي وليا، فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها «١»، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن دعاني لأجيبنّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه».
أي إن العبد إذا أخلص الطاعة لله، صارت أفعاله كلها لله عز وجل، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله، أي لما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعينا بالله في ذلك كله «٢».
ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته فقال: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ..

(١) هذا من قبيل المجاز عن عون الله وتوفيقه ورضاه.
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٧٩

صفحة رقم 193

أي ألم ينظروا إلى الطير المذلل المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحيه في جو السماء، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عز وجل، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة يمكنه معها الطيران، وخلق الهواء أو الجو خلقة يمكن معها الطيران فيه، لما أمكن ذلك، فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة، كما يفعل السباح في الماء، وأوجد له الذيل ليساعده في الهبوط، وخلق الهواء، وجعل ثقله حاملا الطير، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا.
وقوله: ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ معناه أن جسم الطائر ثقيل، والجسم الثقيل لا يمكنه التحليق في الجو من غير دعامة تحته، فكان الممسك له في الجو هو الله تعالى، بواسطة الهواء.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي إن في خلق جناحي الطير، وتسخير الهواء لحملة، لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، لا للأصنام والأوثان، لمن يؤمن بالله. وخص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بتلك الآيات، وإن كانت دلائل لكل العقلاء.
ونظير الآية: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ، وَيَقْبِضْنَ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك ٦٧/ ١٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن علم الغيب في السموات والأرض مختص بالله تعالى، لا يعلم به أحد، إلا من أطلعه الله عليه. وإذا كان الله هو المحيط بالغيب فهو الذي يشرع الحلال والحرام، لا المشركون الجاهلون، الذين لا يدركون عواقب الأمور، ولا يقدرون المصالح.

صفحة رقم 194

٢- إن قيام الساعة (أي حدوث وقت القيامة) في أسرع من لمح البصر دليل واضح على قدرة الله التامة، فهو سبحانه القدير على كل شيء، وهو الذي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ. قال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي يقول للشيء: كُنْ فَيَكُونُ.
٣- إن من نعمه تعالى ومن مظاهر قدرته خلق الناس من بطون أمهاتهم، لا علم لهم بشيء، ثم تزويدهم بوسائل المعرفة والعلم، وهي السمع والأبصار والأفئدة، فبها يعلمون ويدركون. فالسمع لسماع الأوامر والنواهي، والأبصار لرؤية آثار صنع الله، والأفئدة للوصول بها إلى معرفة الله. وذلك كله لشكر نعم الله وإبصار آثار صنعته. والآية دليل على أن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، ثم تأتي المعارف والعلوم بالتعلم بواسطة الحواس التي هي السمع والبصر.
٤- ومن مظاهر قدرة الله ووحدانيته جعل الطير قادرة على التحليق والطيران في الجو (وهو ما بين السماء والأرض) وهي مذللة لأمر الله تعالى، وما يمسكها في حال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله تعالى، وتلك علامات وعبر ودلالات على القدرة الإلهية، لقوم يؤمنون بالله وبما جاءت به رسله، فإنه لولا خلق الطير على وضع يمكنه الطيران، وخلق الجو على حالة يمكن الطيران فيه، لما أمكن ذلك.

صفحة رقم 195
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية