آيات من القرآن الكريم

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ...) وهو فيها أوضح وكلاهما واضح، واللَّه أعلم.
ولولا أننا مقيدون إلى حد ما بما قاله من قبلنا لقلنا: إن اللَّه تعالى قال من قبل ذلك بآيتين (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وفي هذه الآية والتي تليها، يبين سبحانه كيف كان التفضيل في الرزق، وهو أن الفقير اختبره اللَّه تعالى بالعجز، وبتقدير منه سبحانه وتعالى، فضاقت أمامه السبل، وأن الغني آتاه الله تعالى قدرة على الكسب ومكن

صفحة رقم 4225

له من أسباب الرزق، وبذلك ينتهي البيان القرآني في زعمنا إلى تقرير حقيقتين الحقيقة الأولى - أن العجز والكسب والكَيْس بتقدير من اللَّه وباختيار منه، فليس لأحد أن يستطيل أو يستكبر فاللَّه هو الرازق.
والحقيقة الثانية - أن الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان؛ لأن اللَّه تعالى خلق القوي متفاوتة، والفرص متفاوتة، والأسباب في الحياة مختلفة فكان جهلا أن يدعي مغرور أنه يذيب الفوارق بين الغنى والفقر، وقد شاع هذا الغرور في هذه الأزمان كالذي جهل طبائع الإنسان فأفقر ناسا من ذوي الإنتاج، وأغنى العجزة، وكانت أسباب الرزق الحرام طاغية على الحلال المنتج.
قال تعالى في المثل الثاني، وهو في معنى الأول، وهو من تصريف اللَّه البيان في قرآنه المجيد.
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
وهذا مثل آخر كالمثل الأول، وكان الأول موازنة بين عبد مملوك لَا يقدر على شيء، وآخر حر قد رزقه اللَّه وهو ينفع الناس بما رزقه اللَّه تعالى يعطيهم سرا وجهرا على حسب ما يرى، وعلى حسب نيته المحتسبة، والثاني كان موازنة بين رجلين آخرين؛ ولكن أحدهما عاجز لَا يقدر على شيء وهو في حياته كل على قريب له هو مولاه لَا نفع منه، وآخر قادر في عقله مستقيم في خلقه عادل في ذاته.
قال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ)، أي بين حالا لرجلين موازنا بينهما (أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ)، أي أخرس لَا يستطيع أن ينطق فلا يجيب إذا دعاه الداعي، والأخرس في أكثر الأحوال ناقص في مداركه؛ لأنه قد سدت عليه

صفحة رقم 4226

مسالك العلم ولا يحس بمعنى الأشياء، والأخرس عادة يفقد النطق لأن النطق بالمحاكاة فهو لَا يعلم ولا يستطيع أن يبين هواجسه وخواطره فلا يحس بما حوله، وقد فقد المجلس والأنس، ولا يجلب لنفسه نفعا -، (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ)، أي حمل وثقل، والمولى هنا القريب أو ذو الصلة به من أي أنواع الصلات الإنسانية، ومن كانت هذه حاله لَا ينفع الناس، وقد أشار مع ذلك إلى أنه ناقص المواهب ليس متفتح النفس والإدراك، وعبر اللَّه تعالى عن هذه الحال (أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأتِ بِخَيْر)، وثاني الرجلين الموازن بينهما رِجل فيه حكمه جعلته يلى بعض الأمر، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله: (هَلْ يسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيم) الاستنهام هنا لإكار الوقوع أي للنفي المؤكد كأنه سئل السائل وأجيب بالنفي وكان الرجل الثاني الذي ينفي المقابلة بينه وبين الأول قد اتصف بصفتين جليلتين مما يعلو الرجال بهما في الأوساط الإنسانية:
الصفة الأولى - أنه يأمر بالعدل، ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان هو عادلا في ذاته، والعدل صفة في النفس وهي الفضائل التي تدخل في تكوين المزاج الإنساني الكامل، فالعدالة في النفس تزكيها وتنميها وتتجه بها نحو الفضائل، فحيث كانت العدالة النفسية كان الصدق وكان الاعتدال وكانت القدرة على الصبر، فلا تحكمها الشهوات ويكون الانتصاف منها، ويكون تأديب النفس.
وربما يكنى بأنه يأمر بالعدل بتوليه أمور الناس أو بعضهم أو أن يكون الحكم، وهو يشير إلى أنه لَا يتولى أمور الناس إلا عدل يأمر بالعدل يأمر كل نوابه وحاشيته ويقوم بالقسطاس المستقيم بين الناس.
الصفة الثانية - من يكون مستقيم النفس مخلص القلب، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أي مستقيم النفس ذو طريق حسن وهذه أعلى صفات الإنسان، فهو مخلص وإخلاصه يوجهه إلى السبيل المستقيم، والإدراك المستقيم، والكلام المستقيم، والعمل المستقيم والسلوك العام المستقيم، وعبر سبحانه وتعالى بعبارة تؤكد استقامته بعدة إشارات:

صفحة رقم 4227

الإشارة الأولى - أنه عبر بالجملة الاسمية.
الإشارة الثانية - أنه جعله كراكب صراط الاستقامة الجالس عليه؛ ولذا عبر بـ (على) الدالة على التمكن من صراط الاستقامة.
الإشارة الثالثة - أنه عبر بالصراط، وهو في ذاته مستقيم، إذ إنه الخط المستقيم، ووصفه مع ذلك بالاستقامة فكان هذا تأكيدا لفظيا لمعنى الاستقامة في النفس والخلق والعمل.
وإن الأقوال التي ذكرناها في المثل الأول تقال هنا، فأكثر المفسرين على أنه سبحانه ضرب حال عبادة المشركين، بحال من يسوي بين رجلين بينهما تمام التباين، فيسوي بين اللَّه تعالى والأحجار، كمن يسوي بين رجل ناقص الإنسانية ورجل آخر كاملها.
وإن كلام ابن عباس ينطبق هنا أيضا، فيكون نفيا للتساوي بين الكافر المشرك، والمؤمن الموحد.
وما بدر إلينا من أنه بيان لاختلاف القوى والأحوال، وتوافر أسباب الرزق وعدم توافرها، وقدر الله سبحانه وتعالى، وأنه يرزق هذا ويحرم هذا، لعدم السير أو عجزه عن السير في أسباب الثروة، وأن الوجود الإنساني يشتمل على هذه الحقيقة، وأن الناس فيهم الغني والفقير ومن يقول إنه يعمل على إذابة الفوارق بين الغنى والفقر جاهل مغرور، وإن فرض ذلك بالقوة كان ظالما غشوما، وسلب الحقوق ممن ينتجون الحلال، وترك الباب مفتوحا، ليغني طائفة أخرى بالحرام الذي لا ينتج شيئا.
وإنه من بعد ضرب الأمثال، ومنها يتبين أن اللَّه سبحانه وتعالى يدير العالم بحكمته، وأنه وحده القادر على كل شيء وأن الحساب يجيء لَا محالة، ولذا قال تعالى:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)

صفحة رقم 4228
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية