
لم يقل: بأفواه الشامتين.
وقال آخر:
الواردون وتيم في ذرا سبأ | قد عض أعناقهم جلد الجواميس «١» |
وَهُمْ داخِرُونَ صاغرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [وإنما أخبر ب (ما) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث] مِنْ دابَّةٍ يدب عليها كل حيوان يموت، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «٢» وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها «٣».
وَالْمَلائِكَةُ خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم، وقيل:
لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل الله لهم أجنحة كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ «٤» فالطيران أغلب عليهم من الدبيب، وقيل: أراد لله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض.
وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يعني: يخافون [قدرة] ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم، ويدل عليه قوله: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ما يؤمرون يعني الملائكة، وقيل:
معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد [يدل عليه] قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «٥» وقوله إخبارا عن فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «٦».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
(٢) سورة هود: ٦.
(٣) سورة هود: ٥٦.
(٤) سورة فاطر: ١.
(٥) سورة الأنعام: ١٨.
(٦) سورة الأعراف: ١٢٧.

وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ الطاعة والإخلاص.
واصِباً دائما ثابتا.
وقال ابن عبّاس: واجبا، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير الله عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصبا على القطع.
قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه | يوما بذم الدهر أجمع واصبا «١» |
وقال الفراء: ويقال خالصا.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ. وَما بِكُمْ.
قال الفراء: (ما) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر، كأنه قال: وما يكون لكم من نعمة فمن الله.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [....] «٢» أن لّا تتقوا سواه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ لذلك دخلت الفاء في قوله: فَمِنَ اللَّهِ.
ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة. وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو فزع. قال القتيبي يصف بقرة:
فطافت «٣» ثلاثا بين يوم وليلة | وكأن النكير أن تضيف وتجأرا «٤» |
(٢) غير مقروءة في المخطوط.
(٣) ويروى: أقامت.
(٤) لسان العرب: ٦/ ٦٧ والبيت للنابغة الجعدي.

وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ له نفعا ولا فيه ضرا ولا نفعا نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال وهو ما حملوا لأوثانهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «١».
ثمّ رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ في الدنيا وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وهم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه.
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين، وفي قوله: ما وجهان من الأعراب: أحدهما الرفع على الابتداء، ومعنى الكلام: يجعلون لله البنات ولهم البنين، والثاني: النصب عطفا على البنات تقديره: ويجعلون لله البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من الكراهة وَهُوَ كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا يَتَوارى يخفى ويغيب مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من الخزي والعار والحياء ثمّ يتفكر أَيُمْسِكُهُ ذكر الكناية لأنه مردود إلى (ما) عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ فيئده.
وذلك أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون الإناث أحياء- زعموا- خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك، ولذلك قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدات | فأحيا الوئيد فلم يوأد «٢» |
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «٣».
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني لهؤلاء الواضعين لله سبحانه البنات مَثَلُ السَّوْءِ احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقرارا على أنفسهم بالهتك
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر أن تدعو لله ندّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك» [٥] «٤».
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص.
وقال ابن عبّاس: مَثَلُ السَّوْءِ: النار، والْمَثَلُ الْأَعْلى: شهادة أن لا إله إلّا الله «٥».
(٢) تفسير القرطبي: ١٠/ ١١٧.
(٣) سورة النجم: ٢١.
(٤) تفسير الطبري: ٥/ ٦٢، تفسير القرطبي: ١٣/ ٧٥.
(٥) تفسير القرطبي: ١٠/ ١١٩.