آيات من القرآن الكريم

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ

بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
[٢٨٥] فبدأ بذكر الله سبحانه، ثم أتبعه بذكر الملائكة لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، والملائكة يوصلون الوحي إلى الأنبياء والرسل، فكان الترتيب متناسبا متدرجا موضحا رتبة الملائكة والأنبياء «١».
أدلة وجود الله ووحدانيته
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣ الى ٩]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
الإعراب:
بالِغِيهِ الهاء في موضع جر بالإضافة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ هذه الأسماء كلها معطوفة بالنصب على قوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ وتقديره: وخلق الخيل والبغال والحمير.
وَزِينَةً إما منصوب بفعل مقدر، أي وجعلها زينة، وإما منصوب على أنه مفعول لأجله، أي لزينة.

(١) تفسير الرازي: ١٩/ ٢٢٠

صفحة رقم 87

البلاغة:
خَصِيمٌ مُبِينٌ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
وَمِنْها تَأْكُلُونَ قدم الظرف مراعاة للفاصلة آخر الآيات.
تُرِيحُونَ تَسْرَحُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
بِالْحَقِّ أي أوجد السموات والأرض محقا على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة، وقدّرها وخصصها بحكمته تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تعاظم عما يشركون به من الأصنام، وهذا يدل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام المادية مِنْ نُطْفَةٍ المراد مادة التلقيح التي تكون سببا للحمل خَصِيمٌ مناظر مجادل شديد الخصومة مُبِينٌ مظهر للحجة قائل: من يحيي العظام وهي رميم؟ روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم، وقال: يا محمد، أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فنزلت. دِفْءٌ ما تستدفئون به من الكساء والرداء من أشعارها وأصوافها وَمَنافِعُ من النسل والدر والركوب.
جَمالٌ زينة في أعين الناس، والمراد جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها (حظيرتها) تَسْرَحُونَ تخرجونها بالغداة (صباحا) إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ لم تكونوا واصلين إليه على غير الإبل إلا بجهد الأنفس أو بالمشقة الزائدة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم حيث خلقها لكم. وَزِينَةً أي لتتزينوا بها زينة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من الأشياء العجيبة الغريبة.
قَصْدُ السَّبِيلِ أي بيان الطريق المستقيم جائِرٌ حائد أو مائل عن الاستقامة وَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء أَجْمَعِينَ فتهتدون إليه باختيار منكم.
سبب النزول: نزول الآية (٤) :
خَلَقَ الْإِنْسانَ: نزلت الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ ونظير

صفحة رقم 88

الآية قوله تعالى في سورة يس: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إلى آخر السورة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه الإله الواحد، وأمر بإخلاص العبادة له، ذكر أدلة وجود الإله الصانع الواحد وكمال قدرته وحكمته، وهي خمسة: خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الأنعام، وخلق النبات، وخلق العناصر الأربعة. والأخيران هما موضوع الآيات التالية.
التفسير والبيان:
خلق الله تعالى وأبدع العالم العلوي وهو السموات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وذلك مخلوق بالحق، أي على أساس من الحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، وانفرد بخلقه ذلك، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، فقوله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه نفسه عن شرك من عبد معه غيره، فهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فيستحق أن يعبد وحده لا شريك له.
ثم ذكر الله تعالى خلق جنس الإنسان من نطفة، أي مهينة ضعيفة، فقال:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ.. أي خلق الإنسان من ماء مهين ضعيف، فلما استقل وكبر، إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذبه وهو إنما خلق ليكون عبدا، لا ضدا، وخلق من شيء ضعيف، فتراه يجادل ويقول: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨]. ونظير الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الفرقان ٢٥/ ٥٤- ٥٥].
روي أن المراد بالآية أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعظم..

صفحة رقم 89

رميم، فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفي هذا أيضا نزل أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس ٣٦/ ٧٧].
ثم امتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، فقال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ.. أي وخلق الله لكم الأنعام ذات المصالح والمنافع المختلفة لكم، من أصواف وأوبار وأشعار للبس والأثاث (أو الفراش) ومن ألبان للشرب، ونسل للأكل.
ولكم في هذه الأنعام جمال، أي زينة حين الرواح: وهو وقت رجوعها عشاء من المراعي، ووقت السّروح: وهو وقت الغدوة والذهاب من مراحها إلى مسارحها أو المرعى. وخص تعالى هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب، وفي ذلك مفاخرة بالقطيع، وقدم الرّواح على السّروح لأن الفائدة فيه أتم، لمجيئها شبعانة، فتدر الحليب، وتملأ النفس سرورا، والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة إنتاج في الاقتصاد.
وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة والتركيب والصورة.
وكذلك هي أداة عمل وركوب وحمل أمتعة، فقال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.. أي وهي أيضا تحمل أمتعتكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها من بلد إلى آخر لا تبلغونه إلا بمشقة شديدة، مثل الحج والعمرة والجهاد والتجارة ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ركوبا وتحميلا، كما قال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٢١- ٢٢] وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر ٤٠/ ٧٩- ٨٠].
وتظل الأنعام ثروة اقتصادية في كل زمان ومكان، ونعمة كبري، لذا ختم

صفحة رقم 90

تعالى الآية بقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، فقد جعلها لهم مصدر رزق وخير كبير، وأداة منافع وجلب مصالح، كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس ٣٦/ ٧١- ٧٢].
وامتن الله تعالى على الناس بثروة حيوانية أخرى هي: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ.. وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا، وجعلها للركوب والزينة بها أي تتزينون بها، مع منافع أخرى.
ثم جاء دور الامتنان بوسائل النقل والمواصلات الحديثة: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق لكم غير هذه الحيوانات من وسائل النقل كالقطارات والسيارات والسفن والطائرات وغيرها.
ثم في هذا العالم السماوي والأرضي والحيواني، يرشد تعالى إلى الطريق السوي من الطرق المعنوية الدينية والحياتية فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.. أي وعلى الله فضلا وتكرما بيان الطريق الواضح الموصل إلى الحق والخير، بإقامة الأدلة وإنزال الكتب وإرسال الرسل، كما قال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام ٦/ ١٥٣] وقال سبحانه: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر ١٥/ ٤١].
وكثيرا- كما قال ابن كثير- ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تعالى في الحج: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة ٢/ ١٩٧] وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف ٧/ ٢٦].
ثم قال سبحانه محذرا من متاهات الطرق: وَمِنْها جائِرٌ أي ومن

صفحة رقم 91

الطرق أو السبل طريق جائر حائد عن الاستقامة، مؤد إلى الضلال والزيغ عن الحق. وسبيل الاستقامة هو الإسلام، والجائر منها غيره من الأديان، لنسخها بالإسلام، ولأن الإسلام دين التوحيد والفطرة الذي ارتضاه لعباده، كما قال:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم ٣٠/ ٣٠].
ثم أخبر الله تعالى أن الهداية بقدرته ومشيئته تعالى فقال: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قال المعتزلة: ولو شاء لهداكم جميعا جبرا وقسرا وإلجاء. وقال أهل السنة: الله قادر على هداية جميع الناس، ما في ذلك أدنى شك، وإنما المراد بالآية: أنه تعالى بيّن السبيل القاصد المستقيم والجائر، وهدى قوما يستحقون الهداية، وقد اختاروا الهدى، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. والهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] وهداية توفيق ورعاية كما في قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة ١/ ٦] وقوله هنا: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩] وقوله عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٨- ١١٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجوده ووحدانيته

صفحة رقم 92

لكن تعدى الإنسان طوره، وتجاوز حدوده، فناكد وجادل، وكذب ربه وخاصمه في قدرته.
٢- وكذلك خلق الأنعام بما فيها من منافع امتن الله بها على الإنسان دليل آخر على قدرة الله وتوحيده.
ودل قوله فِيها دِفْءٌ على مشروعية لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء قبله، كموسى وغيره.
ومنافع الأنعام كثيرة لا نكاد نجد لها شبيها، ففيها منفعة الأجسام ذاتها بأكل لحومها، ومنفعة نتاجها بالدر واللبن والنسل، ومنفعة ما تستر به من أوبار وأصواف وأشعار، ومنفعة ظهورها للركوب وحمل الأثقال والنقل من بلد إلى آخر، ومنفعة قواها بالحرث، فالبقرة لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل واللبن، فحق على الإنسان شكر هذه النعمة، ومقابلتها بالعبادة لله تعالى الذي خلقها وسخرها للناس.
ودلت هذه الآية على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها، ولكن بقدر المعتاد وقدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل، مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها «١» ».
وهذا دليل الرفق بالحيوان.
٣- كذلك الدواب الأخرى التي خلقها الله وهي الخيل والبغال والحمير دليل

(١) السنة: القحط ويبس نبات الأرض، والنّقي: المخ، والمعنى: أسرعوا في السير بالإبل، لتصلوا إلى المقصد، وفيها بقية من قوتها، لعدم وجود ما يقويها على السير في الأرض الجدبة

صفحة رقم 93

آخر على القدرة الإلهية، ومزيد فضل الله تعالى، قال العلماء: ملّكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها، رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم.
واختلف العلماء فيمن اكترى دابة بأجر معلوم إلى موضع معين، فتعدي وتجاوز ذلك المكان، ثم رجع إلى المكان المأذون له فيه، فقال أبو حنيفة:
لصاحبها الأجرة المسماة، ولا أجر له فيما لم يسمّ لأنه خالف فهو ضامن إذا هلكت الدابة.
وقال الشافعي وفقهاء المدينة السبعة: على المستأجر الكراء المسمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمته قيمتها.
وقال أحمد: عليه الكراء والضمان.
وقال ابن القاسم تلميذ مالك: إذا عطبت الدابة في حال التجاوز، فلصاحبها كراؤه الأول، وله الخيار في أخذ كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي.
واستدل بالآية مالك وأبو حنيفة وغيرهما على تحريم لحوم الخيل لأنه تعالى قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل، ولا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة، دل على أن ما عداه بخلافه. أما في الأنعام فقال: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها.
ويؤيده
حديث أحمد وأبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير.
وهو لفظ الدارقطني...

صفحة رقم 94

قال القرطبي المالكي: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل إذ لو دلت عليه لدلّت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر، وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرّحا به، وقد تركب ويحرث بها.
وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، وثبت ذلك في السنة،
روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النّسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر «١».
واستدل جمهور العلماء بالآية أيضا على أن الخيل لا زكاة فيها لأن الله سبحانه منّ علينا بما أباحه منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل.
وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها، أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قوّمها، فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.
واحتج بأثر
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في الخيل السائمة في كل فرس دينار»
لكنه كما قال الدارقطني: تفرد به ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء.
٤- لم ينقطع فضل الله وكرمه، فقد خلق لنا غير الأنعام والدواب فقال:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وهذا يشمل كل وسائل النقل والركوب الحديثة.

(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٧٦- ٧٧

صفحة رقم 95
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية