آيات من القرآن الكريم

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ

ثم قال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَفِي مَحَلِّ: الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التقدير: أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مَدْحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْعَذَابِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الَّذِي هُوَ حَرَمُ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُجَاهَدَةِ وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ. أَمَّا الصَّبْرُ فَلِلسَّعْيِ فِي قَهْرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَلِلِانْقِطَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْخَلْقِ وَالتَّوَجُّهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَبْدَأُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: آخِرُ هَذَا الطَّرِيقِ وَنِهَايَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الْخَامِسَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ بِعْثَةَ رَسُولٍ إِلَيْنَا لَكَانَ يَبْعَثُ مَلَكًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فلا نعيده هاهنا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣، ٣٤] وَقَالَ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ/ مِنْهُمْ [يُونُسَ: ٢] وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفَرْقَانِ: ٧].
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْخَلْقِ وَالتَّكْلِيفِ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْعَادَةُ مُسْتَمِرَّةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَطَعْنُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ بِهَذَا السُّؤَالِ الرَّكِيكِ أَيْضًا طَعْنٌ قَدِيمٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مَلَكًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي: وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَّا مَنْ هُوَ بِصُورَةِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثم قال الْقَاضِي: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَضْرَةِ أُمَمِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا بِصُورَةِ الرِّجَالِ، كَمَا
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ سُرَاقَةَ،
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ عِنْدَ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الرَّسُولِ قَدْ يَبْقَوْنَ عَلَى صُورَتِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ،
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ،
وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النَّجْمِ: ١٣]

صفحة رقم 210

وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ أَتْبَعَهُ بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الذِّكْرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ، وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥] يَعْنِي التَّوْرَاةَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكُتُبِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بَشَرٌ، وَالثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، إِذِ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلُوا كُلَّ مَنْ يُذْكَرُ بِعِلْمٍ وَتَحْقِيقٍ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ إِنَّمَا تَمَسَّكَ بِهَا كُفَّارُ مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْعُلُومِ وَالْكُتُبِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعُوا فِي هَذِهِ المسألة إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ ضَعْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَسُقُوطَهَا، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ تَزْيِيفِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَبَيَانِ سُقُوطِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ؟ مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِالْجَوَازِ/ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ عَالِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ الْآخَرِ الَّذِي يكون عالما لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْمُكَلَّفُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَاقِعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُكْمِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعَالِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ الحكم بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجَوَابُهُ: أن ثَبَتَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْبَاءِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ صِلَةَ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَتَأَخَّرُ إِلَى بَعْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ هُوَ مَجْمُوعُ مَا قَبْلَ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ، فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَذْكُورًا بِتَمَامِهِ امْتَنَعَ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ:
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَثْنَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَالِبَ لِهَذَا الْبَاءِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ بِزَيْدٍ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ ثُمَّ يَقُولُ مَرَّ بِزَيْدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالتَّقْدِيرُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا تَكَامَلَ بِهِ الرِّسَالَةُ، لِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَهِيَ الْبَيِّنَاتُ وَعَلَى التَّكَالِيفِ الَّتِي يُبَلِّغُهَا الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ وَهِيَ الزُّبُرُ.
ثم قال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل:

صفحة رقم 211

المسألة الْأُولَى: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ مُفْتَقِرٌ إِلَى بَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ مُجْمَلٌ، فَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُجْمَلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْخَبَرُ مُبَيِّنٌ لَهُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُبَيِّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ مُحْكَمٌ، وَمِنْهُ مُتَشَابِهٌ، وَالْمُحْكَمُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كُلُّهُ مُجْمَلًا بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ مُجْمَلًا فَقَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْمَلَاتِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُ كُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُكَلِّفُ ذَلِكَ الحكم بِطَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، وَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُبَيِّنَ لِكُلِّ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَمَنْ رَجَعَ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ إِلَى الْقِيَاسِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ رُجُوعًا إِلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ [إلى آخر الآية] الْمَكْرُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ على سبيل الإخفاء، ولا بد هاهنا مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَكْرِ اشْتِغَالُهُمْ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ سَعْيُهُمْ فِي إِيذَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي تَهْدِيدِهِمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً: الْأَوَّلَ: أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ. الثَّانِيَ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ يَفْجَؤُهُمْ فَيُهْلِكُهُمْ بَغْتَةً كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّقَلُّبِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي أَسْفَارِهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي السَّفَرِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي الْحَضَرِ وَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بِسَبَبِ ضَرْبِهِمْ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بَلْ يُدْرِكُهُمُ اللَّهُ حَيْثُ كَانُوا، وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٦]. وَثَانِيهِمَا: تَفْسِيرُ هَذَا اللَّفْظِ بِأَنَّهُ يَأْخُذُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي أَحْوَالِ إِقْبَالِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ وَحَقِيقَتُهُ فِي حَالِ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ مَا يَنْقَلِبُونَ فِي قَضَايَا أَفْكَارِهِمْ فَيَحُولُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِتْمَامِ تِلْكَ الْحِيَلِ قَسْرًا كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [يس: ٦٦] وَحَمْلُ لَفْظِ التَّقَلُّبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ [التَّوْبَةِ: ٤٨] فَإِنَّهُمْ إِذَا قَلَّبُوهَا فَقَدْ تَقَلَّبُوا فِيهَا.
وَالنوع الرَّابِعُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ وَفِي تَفْسِيرِ التَّخَوُّفِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: التَّخَوُّفُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَوْفِ، يُقَالُ خِفْتُ الشَّيْءَ وَتَخَوَّفْتُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ أَوَّلًا بَلْ يُخِيفُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ بَعْدَهُ، وَتِلْكَ الْإِخَافَةُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُ فِرْقَةً فَتَخَافُ التي تليها فيكون

صفحة رقم 212
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية