آيات من القرآن الكريم

وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡ

بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْحُلِيُّ الَّذِي هُوَ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي هذه الآية وهو قوله: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فَصَارَ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ لا زكاة في اللئالئ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: مَخْرُ السَّفِينَةِ شَقُّهَا الْمَاءَ بِصَدْرِهَا، وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ صَوْتُ جَرْيِ الْفُلْكِ بِالرِّيَاحِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَواخِرَ أَيْ جِوَارِيَ، إِنَّمَا حَسُنَ التَّفْسِيرُ بِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَشُقُّ الْمَاءَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي لِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجَارَةِ فَتَطْلُبُوا الرِّبْحَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِذَا وَجَدْتُمْ فَضْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانَهُ فَلَعَلَّكُمْ تُقْدِمُونَ عَلَى شُكْرِهِ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ بَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ.
فَالنِّعْمَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَكَرَاهَةَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَكَرْنَا هَذَا عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَالْمَيْدُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يَمِينًا وَشِمَالًا يُقَالُ: مَادَ يَمِيدُ مَيْدًا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ السَّفِينَةَ إِذَا أُلْقِيَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِنَّهَا تَمِيدُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَتَضْطَرِبُ، فَإِذَا وُضِعَتِ الْأَجْرَامُ الثَّقِيلَةُ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ اسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَاسْتَوَتْ. قَالُوا فَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ اضْطَرَبَتْ وَمَادَتْ، فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا هَذِهِ الْجِبَالَ الثِّقَالَ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ بِسَبَبِ ثِقَلِ هَذِهِ الْجِبَالِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ ثَقِيلَةً بِالطَّبْعِ أَوْ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ حَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِطِبَاعِهَا أَوْ لَيْسَتْ بِطِبَاعِهَا بَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَهَذَا التَّعْلِيلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْضَ أَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ، وَالْأَثْقَلُ مِنَ الْمَاءِ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَبْقَى طَافِيًا عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ طَافِيًا عَلَيْهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تَمِيدُ وَتَمِيلُ وَتَضْطَرِبُ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا مُتَّخَذَةٌ مِنَ الْخَشَبِ وَفِي دَاخِلِ الْخَشَبِ تَجْوِيفَاتٌ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْهَوَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ تَبْقَى الْخَشَبَةُ طَافِيَةً عَلَى الْمَاءِ فَحِينَئِذٍ تَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ وَتَمِيلُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَإِذَا أُرْسِيَتْ بِالْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ اسْتَقَرَّتْ وَسَكَنَتْ فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ طَبَائِعُ تُوجِبُ الثِّقَلَ وَالرُّسُوبَ وَالْأَرْضُ إِنَّمَا تَنْزِلُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِجَعْلِهَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا صَارَ الْمَاءُ مُحِيطًا بالأرض لمجرد إجراء العادة، وليس هاهنا طَبِيعَةٌ لِلْأَرْضِ وَلَا لِلْمَاءِ تُوجِبُ حَالَةً مَخْصُوصَةً فَنَقُولُ:
فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِلَّةُ سُكُونِ الْأَرْضِ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا السُّكُونَ وَعِلَّةُ كَوْنِهَا مَائِدَةً مُضْطَرِبَةً هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا الْحَرَكَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَائِلَةً فَخَلَقَ اللَّهُ الْجِبَالَ وَأَرْسَاهَا

صفحة رقم 189

عَلَيْهَا لِتَبْقَى سَاكِنَةً، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ طَبِيعَةُ الْأَرْضِ تُوجِبُ الْمَيَدَانَ وَطَبِيعَةُ الْجِبَالِ تُوجِبُ الْإِرْسَاءَ وَالثَّبَاتَ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ الْآنَ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْيِ الطَّبَائِعِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مُشْكِلٌ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِرْسَاءَ الْأَرْضِ بِالْجِبَالِ إِنَّمَا يُعْقَلُ لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيدَ وَتَمِيلَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الْأَرْضُ عَلَى وَجْهِهِ وَاقِفًا فَنَقُولُ:
فَمَا الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَوُقُوفِهِ فِي حَيِّزِهِ الْمَخْصُوصِ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ هُوَ أَنَّ طَبِيعَتَهُ الْمَخْصُوصَةَ تُوجِبُ وُقُوفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ: مِثْلَهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي لِلْأَرْضِ تُوجِبُ وُقُوفَهَا فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا وَقَفَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى/ أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمُقْتَضِي لِسُكُونِ الْمَاءِ فِي حَيِّزِهِ الْمُعَيَّنِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَكَّنَ الْمَاءَ بِقُدْرَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمَخْصُوصِ، فَلِمَ لَا تَقُولُ مِثْلَهُ فِي سُكُونِ الْأَرْضِ، وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ هَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَرْضِ جِسْمٌ عَظِيمٌ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَمِيدَ كُلِّيَّتُهُ وَتَضْطَرِبَ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَالَةُ لِلنَّاسِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْأَرْضَ تُحَرِّكُهَا الْبُخَارَاتُ الْمُحْتَقِنَةُ فِي دَاخِلِهَا عِنْدَ الزَّلَازِلِ، وَتَظْهَرُ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ لِلنَّاسِ فَبِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا الْجِبَالُ لَتَحَرَّكَتِ الْأَرْضُ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لَمْ تَقْوَ الرِّيَاحُ عَلَى تَحْرِيكِهَا.
قُلْنَا: تِلْكَ الْبُخَارَاتُ إِنَّمَا احْتَقَنَتْ فِي دَاخِلِ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْحَرَكَةُ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الصَّغِيرَةِ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ. قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ ظُهُورَ الْحَرَكَةِ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْأَرْضِ يَجْرِي مَجْرَى اخْتِلَاجٍ يَحْصُلُ فِي عُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَمَّا لَوْ حُرِّكَتْ كُلِّيَّةُ الْأَرْضِ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْحَرَكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّاكِنَ فِي السَّفِينَةِ لَا يَحُسُّ بِحَرَكَةِ كُلِّيَّةِ السَّفِينَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةً عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا فَكَذَا هاهنا، فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْمَبَاحِثِ الدَّقِيقَةِ الْعَمِيقَةِ وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُشْكَلِ أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجِبَالَ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْكُرَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى خُشُونَاتٍ تَحْصُلُ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْكُرَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخُشُونَاتِ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً بَلْ كَانَتِ الْأَرْضُ كُرَةً حَقِيقِيَّةً خَالِيَةً عَنِ الْخُشُونَاتِ وَالتَّضْرِيسَاتِ لَصَارَتْ بِحَيْثُ تَتَحَرَّكُ بِالِاسْتِدَارَةِ بِأَدْنَى سَبَبٍ لِأَنَّ الْجِرْمَ الْبَسِيطَ الْمُسْتَدِيرَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا بِالِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَقْلًا إِلَّا أَنَّهُ بِأَدْنَى سَبَبٍ يَتَحَرَّكُ عَلَى هَذَا الوجه، أَمَّا لَمَّا حَصَلَ عَلَى ظَاهِرِ سَطْحِ كُرَةِ الْأَرْضِ هَذِهِ الْجِبَالُ وَكَانَتْ كَالْخُشُونَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْكُرَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ بِطَبْعِهِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ وَتَوَجُّهُ ذَلِكَ الْجَبَلِ نَحْوَ مَرْكَزِ الْعَالَمِ بِثِقَلِهِ الْعَظِيمِ وَقُوَّتِهِ الشَّدِيدَةِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْوَتَدِ الَّذِي يَمْنَعُ كُرَةَ الْأَرْضِ مِنَ الِاسْتِدَارَةِ، فَكَانَ تَخْلِيقُ هَذِهِ الْجِبَالِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَالْأَوْتَادِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْكُرَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا عَنِ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَكَانَتْ مَانِعَةً لِلْأَرْضِ مِنَ الْمَيْدِ وَالْمَيْلِ وَالِاضْطِرَابِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مَنَعَتِ الْأَرْضَ مِنَ الْحَرَكَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بَحْثِي فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.

صفحة رقم 190

النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الْأَنْهَارَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ حصل هاهنا بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْهاراً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ وألقى رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا. وَخَلْقُ الْأَنْهَارِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يسمى بالإلقاء فيقال: ألقى الله فِي الْأَرْضِ أَنْهَارًا كَمَا قَالَ: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [ق: ٧] وَالْإِلْقَاءُ مَعْنَاهُ الْجَعْلُ أَلَا تَرَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها [فُصِّلَتْ: ١٠] وَالْإِلْقَاءُ يُقَارِبُ الْإِنْزَالَ، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ يَدُلُّ عَلَى طَرْحِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِلْقَاءِ الْجَعْلُ وَالْخَلْقُ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩].
البحث الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْهَارِ إِنَّمَا تَتَفَجَّرُ مَنَابِعُهَا فِي الْجِبَالِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَتْبَعَ ذِكْرَهَا بِتَفْجِيرِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ.
النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ سُبُلًا وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا لِأَجْلِ أَنْ تَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [طه: ٥٣] وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِكَيْ تَهْتَدُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا مُعَيَّنَةً ذَكَرَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِيهَا عَلَامَاتٍ مخصوصة حيت يَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَيَصِلَ بِوَاسِطَتِهَا إِلَى مَقْصُودِهِ فَقَالَ: وَعَلاماتٍ وَهِيَ أَيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ:
فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ وَأَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا وَسُبُلًا وَأَلْقَى فِيهَا عَلَامَاتٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَلَامَاتِ مَعَالِمُ الطُّرُقِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا يُهْتَدَى، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ هِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً يَشُمُّونَ التُّرَابَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الشَّمِّ يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقَ. قَالَ الْأَخْفَشُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَعَلاماتٍ وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجِنْسُ كَقَوْلِكَ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ هُوَ الثُّرَيَّا، وَالْفَرْقَدَانِ، وَبَنَاتُ نَعْشٍ، وَالْجَدْيُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَبِالنَّجْمِ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمَّةٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ جَمْعُ نَجْمٍ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ وَالسُّكُونُ تَخْفِيفٌ. وَقِيلَ: حُذِفَ الْوَاوُ مِنَ النَّجْمِ تَخْفِيفًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خِطَابٌ الحاضرين وَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ خِطَابٌ لِلْغَائِبِينَ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
قُلْنَا: إِنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُكْثِرُ أَسْفَارَهَا لِطَلَبِ الْمَالِ، وَمَنْ كَثُرَتْ أَسْفَارُهُ كَانَ عِلْمُهُ بِالْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ أَكْثَرَ وَأَتَمَّ فَقَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ لِلسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مُخْتَصٌّ بِالْبَحْرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا/ ذَكَرَ صِفَةَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَسِيرُونَ فِيهِ يَهْتَدُونَ بِالنَّجْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً وَلِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِالنَّجْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنُّجُومِ وَبِالْعَلَامَاتِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُمْكِنُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي

صفحة رقم 191
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية