٦- إن المقصود من آية السبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف فيه، فيشدّد عليهم كما شدّد على اليهود.
أسس الدعوة إلى الدين وجعل العقاب بالمثل والصبر على المصاب
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
الإعراب:
فِي ضَيْقٍ قرئ بفتح الضاد وكسرها، والضّيق بالفتح: المصدر، والضّيق بالكسر:
الاسم.
المفردات اللغوية:
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ادع يا محمد الناس إلى دين الله بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المواعظ والعبر النافعة والقول الرقيق. قال البيضاوي: والأولى- أي الحكمة- لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق، والثانية- أي الموعظة- لدعوة عوامهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار أيسر الوجوه وأقوم الأدلة وأشهر المقدمات، فإن ذلك أنفع في تسكين ثورتهم وتبيين شغبهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. أي إنما عليك البلاغ والدعوة، وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما، فليس إليك، بل الله عالم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي لهم.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ فيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني، وليس له أن يجاوزه، وفيه أيضا الحث على العفو تعريضا بقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ وتصريحا على الوجه الآكد بقوله: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لهو، أي الصبر خير كله من الانتقام.
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر يا محمد وما صبرك إلا بتوفيق الله، وتثبيته، وهذا
تصريح بالأمر به لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه أولى الناس به، لزيادة علمه بالله، ووثوقه عليه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين إن لم يؤمنوا، لحرصك على إيمانهم، أو على المؤمنين وما فعل بهم يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لا تك في ضيق صدر من مكرهم، أي لا تهتم بمكرهم، فأنا ناصرك عليهم مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم من طاعة وصبر، بالعون والنصر، والولاية والفضل.
سبب النزول: نزول الآية (١٢٦) :
وَإِنْ عاقَبْتُمْ:
أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة، حين استشهد، وقد مثّل به فقال: لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف، بخواتيم سورة النحل:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة، فكفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمسك عما أراد.
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي بن كعب قال: لما كان أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، ومنهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم، فما كان فتح مكة، أنزل الله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية. قال السيوطي: وظاهر هذا تأخير نزولها- أي السورة- إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولا بمكة، ثم ثانيا بأحد، وثالثا يوم الفتح، تذكيرا من الله لعباده.
والخلاصة: إن هذه الآية مدنية في رأي جمهور المفسرين، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السّير.
فضيلة هذه الآيات:
قيل لهرم بن حبّان حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية من المال، ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ...
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم عليه السلام، بيّن الشيء الذي أمره بمتابعته، وهو دعوة الناس إلى الدين بأحد طرق ثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن. والدعوة إلى دين الله وشرعه تكون بتلطف، وهو أن يسمع المدعو الحكمة: وهو الكلام الصواب القريب، الواقع من النفس أجمل موقع.
فالآية متصلة بما قبلها اتصالا حسنا، لتدرج الآيات من الذي يدعى ويوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله.
ثم أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف، وجعل القصاص بالمثل، ثم صرح تعالى بالأمر بالصبر على المشاق والمصائب، والصبر بتوفيق الله ومعونته، هو مفتاح الفرج.
التفسير والبيان:
الدعوة إلى دين الله وتوحيده أو الاعلام بها أمر ضروري للعلم بها، لذا كانت هي المهمة الأساسية للرسل عليهم السلام، فأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الناس إلى الله بالحكمة قائلا: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ.. أي ادع أيها الرسول الناس إلى شريعة ربك، وهي الإسلام بالحكمة، أي بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي بالعبر والزواجر التي تؤثر بها في قلوبهم، ذكّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى.
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من
غيرها، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، واصفح عمن أساء في القول، وترفّق بهم في الخطاب، وقابل السوء بالحسنى، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت، وسب الخصم أو الأذى، كما قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
فهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلين الجانب ولطف الخطاب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه ٢٠/ ٤٤] فعلى كل داعية امتثال هذا الأمر الإلهي في دعوته.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي قد علم الله الشقيّ منهم والسعيد، ومن حاد عن منهج الحق، ومن اهتدى إليه، وهو مجازيهم على ضلالهم واهتدائهم حين لقاء ربهم، فله الجزاء، لا إليك يا محمد ولا إلى غيرك، وليس عليك هداهم، إنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص ٢٨/ ٥٦] وقال:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢]. والآية مشتملة على وعد ووعيد.
ومن رفق النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة
ما رواه أبو أمامة: أن غلاما شابا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قربوه إذن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أتحبه لأمك؟
قال: لا، جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبّه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبّه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبّونه لأخواتهم.
فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره وقال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه.
وبعد أن أمر سبحانه وتعالى بالرفق في الدعوة والخطاب، أمر بالعدل والإنصاف في العقاب، والمماثلة في استيفاء الحق إذ قد تكون الدعوة سببا في إغاظة الآخرين، وإقدامهم على القتل أو الضرب أو الشتم، فقال سبحانه:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا...
أي وإن عاقبتم المسيء أيها المؤمنون، فعاقبوه بمثل جرمه، بلا زيادة ولا تجاوز للحدود. وإن أخذ رجل منكم شيئا، فخذوا مثله، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به.
وقوله: عُوقِبْتُمْ بِهِ إنما سماه الله عقابا على سبيل المشاكلة لأن أصل العقاب المجازاة على الفعل، فالفعل في ابتداء الأمر ليس عقابا.
ثم دعا تعالى إلى الترفع عن العقاب والتسامي عن المقابلة والجزاء بالمثل، فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
أي ولئن صبرتم عن المقابلة بالمثل، وتجاوزتم عن الإساءة، وصفحتم، واحتسبتم الثواب والأجر على ما نالكم من ظلم، فالله يتولى عقابه، والصبر خير للصابرين من الانتقام لأن انتقام الله أشد. فقوله لَهُوَ يعود الضمير إلى المصدر في قوله: صَبَرْتُمْ. والمراد بالمصدر: إما الجنس أي جنس الصبر خير، وإما صبركم، أي لصبركم خير لكم، فوضع لِلصَّابِرِينَ موضع لكم ثناء عليهم.
ثم أمر الله نبيه صراحة بالصبر بصفة عامة بعد أن ذكر حسن عاقبته، فقال: وَاصْبِرْ، وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي واصبر على ما أصابك من أذى في
سبيل الدعوة، وما صبرك إلا بعون الله وحسن توفيقه ومشيئته، أي لما كان الصبر شاقا، ذكر ما يعين عليه، فالجأ إلى الله في طلب الصبر، والتثبيت في الأمر.
وقوله: وَاصْبِرْ.. تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته. وهو تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ناله من أذى قومه، وتثبيت له.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي ولا تجزع على إعراض المشركين وكل من خالفك، فإن الله قدّر ذلك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فترك الحزن مما يستعان به على الصبر.
وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا تكن في غم وضيق صدر من مكرهم وتدبيرهم الكيد لك، وإجهاد أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك، كما قال تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف ٧/ ٢] وقال: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ، أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود ١١/ ١٢].
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.. أي إن الله مع المتقين الذين تركوا محارمه، المجتنبين معاصيه بالنصر والمعونة والتأييد، ومع المحسنين أعمالهم برعاية الفرائض، والتزام الطاعة، وأداء الحقوق. والصبر: من التقوى والإحسان.
فقوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا أي تركوا محارمه، وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي فعلوا الطاعات.
وهذه معيّة خاصة، يراد بها الإعانة والتأييد والهداية، كقوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال ٨/ ١٢] وقوله لموسى وهرون: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى
[طه ٢٠/ ٤٦] وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للصديق، وهما في الغار: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة ٩/ ٤٠].
وهناك معيّة عامة بالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد ٥٧/ ٤] وقوله: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة ٥٨/ ٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- على من يدعو الناس إلى دين الله اتباع أحد هذه الطرق الثلاث: وهي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالطريق الأحسن.
وعلى الداعية أيضا أن يكون شجاعا في الحق، فلا يهن، صارما في الصدق، فلا يضعف، مخلصا متفانيا في مبدئه، فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الناس. وأن يصبر في دعوته جاءت قريش إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما شاء من مال، ويترك ما يدعو إليه، فذكر أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك،
فبكى وقال:
«يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه».
٢- لا يتعلق حصول الهداية بالداعية، فهو تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين.
٣- العقاب يكون بالمثل دون زيادة، فالمظلوم منهي عن استيفاء الزيادة من الظالم.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في أخذ مال، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، محتجين بهذه الآية وعموم لفظها: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.
وقال مالك وجماعة معه: لا يجوز له ذلك
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الدارقطني- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكّن الآخر من زوجة الثاني، بأن تركها عنده وسافر فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأمر، فقال له: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
٤- دلت آية: بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب.
٥- سمّى الله تعالى الأذى في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك من طريق المشاكلة، ليستوي اللفظان، وتتجانس ديباجة القول، فالأول مجاز والثاني حقيقة.
هذا بعكس قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران ٣/ ٥٤] وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة ٢/ ١٥] فإن الفعل الثاني أي من الله هو المجاز هنا، والأول هو الحقيقة، كما قال ابن عطية.
٦- التحلي بالصبر فضيلة أمر الله بها. قال ابن زيد عن آية: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ: هي منسوخة بآية القتال. ولكن جمهور الناس على أنها محكمة، أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عوقبوا به من المثلة.
٧- إن الله نصير المتقين الذين تركوا الفواحش والمعاصي ومؤيدهم ومعينهم، وهو أيضا نصير المحسنين الذين فعلوا الطاعات.
تم هذا الجزء ولله الحمد
[الجزء الخامس عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الإسراءمكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الإسراء لافتتاحها بمعجزة الإسراء للنبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليلا، كما سميت أيضا سورة بني إسرائيل، لإيرادها قصة تشردهم في الأرض مرتين بسبب فسادهم: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [٤- ٨].
فضلها:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزّمر».
وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود «أنه قال في بني إسرائيل- أي هذه السورة- والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأوّل، وهن من تلادي»
أي فهي مشتركة في قدم النزول، وكونها مكيات، واشتمالها على القصص.
مناسبتها لما قبلها:
يظهر وجه ارتباطها بسورة النحل من عدة نواح:
١- إنه تعالى بعد أن قال في آخر سورة النحل: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى صفحة رقم 5
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم، وذكر جميع ما شرعه لهم في التوراة،
فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل».
٢- بعد أن أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين في ختام سورة النحل بنسبته إلى الكذب والسحر والشعر، سلّاه هنا، وأبان شرفه وسمو منزلته عند ربه بالإسراء، وافتتح السورة بذكره تشريفا له، وتعظيما للمسجد الأقصى الذي أشير إلى قصة تخريبه.
٣- في السورتين بيان نعم الله الكثيرة على الإنسان، حتى سميت سورة النحل «سورة النعم» وفصلت هنا أنواع النعم العامة والخاصة، كما في الآيات [٩- ١٢] و [٧٠].
٤- في سورة النحل أبان تعالى أن القرآن العظيم من عنده، لا من عند بشر، وفي هذه السورة ذكر الهدف الجوهري من ذلك القرآن.
٥- في سورة النحل ذكر تعالى قواعد الاستفادة من المخلوقات الأرضية، وفي هذه السورة ذكر قواعد الحياة الاجتماعية من بر الأبوين، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقهم من غير تقتير ولا إسراف، وتحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، وإبطال التقليد من غير علم.
ما اشتملت عليه السورة:
١- تضمنت السورة الإخبار عن حدث عظيم ومعجزة لخاتم الأنبياء والمرسلين وهي معجزة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل، والتي هي دليل باهر على قدرة الله عز وجل، وتكريم إلهي لهذا النبي صلّى الله عليه وسلم.
٢- وأخبرت عن قصة بني إسرائيل في حالي الصلاح والفساد، بإعزازهم حال
الاستقامة وإمدادهم بالأموال والبنين، وتشردهم في الأرض مرتين بسبب عصيانهم وإفسادهم، وتخريب مسجدهم. ثم عودهم إلى الإفساد باستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وإرادتهم إخراجه من المدينة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [٧٦].
٣- وأبانت بعض الأدلة الكونية على قدرة الله وعظمته ووحدانيته، مثل آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. [١٢].
٤- وضعت هذه السورة أصول الحياة الاجتماعية القائمة على التحلي بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة، وذلك في الآيات: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ... [٢٣- ٣٩].
٥- نددت السورة بنسبة المشركين البنات إلى الله زاعمين أن البنات من الملائكة: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [٤٠] ثم أنكرت عليهم وجود آلهة مع الله [٤١- ٤٤] ثم فندت مزاعمهم بإنكار البعث والنشور [٤٩- ٥٢] [٩٨- ٩٩] وحذرت النبي صلّى الله عليه وسلم من موافقته المشركين في بعض معتقداتهم [٧٣- ٧٦].
٦- أوضحت السورة سبب عدم إنزال الأدلة الحسية الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم [الآية ٥٩]، ومدى تعنت المشركين في إنزال آيات اقترحوها غير القرآن من تفجير الأنهار، وجعل مكة حدائق وبساتين، وإسقاط قطع من السماء، والإتيان بوفود الملائكة، وإيجاد بيت من ذهب، والصعود في السماء [الآيات ٨٩- ٩٧].
٧- أنبأت السورة عن قدسية مهمة القرآن وسمو غاياته: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [٩] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [٨٢] وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله [٨٨] مما يدل على إعجازه.
٨- أعلنت السورة مبدأ تكريم الإنسان بأمر الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس [٦١- ٦٥] وتكريم بني آدم ورزقهم من الطيبات [٧٠].
٩- عددت أنواعا جليلة من نعم الله على عباده: [١٢- ١٧] ثم لوم الإنسان على عدم الشكر: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. [٨٣] ومن أخص النعم: هبة الروح والحياة [٨٥].
١٠- عقدت مقارنة بين من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [١٨- ٢١].
١١- ذكرت أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة والتهجد في الليل [٧٨- ٧٩] ودخوله المدينة وخروجه من مكة [٨٠].
١٢- أشارت إلى جزء من قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل [١٠١- ١٠٤].
١٣- أبانت حكمة نزول القرآن منجمّا (مفرقا بحسب الوقائع والحوادث والمناسبات) [١٠٥- ١٠٦].
١٤- ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد، والناصر والمعين، واتصاف الله بالأسماء الحسنى التي أرشدنا إلى الدعاء بها [١١٠- ١١١].
والخلاصة: إن السورة اهتمت بترسيخ أصول العقيدة والدين كسائر السور المكية، من إثبات التوحيد، والرسالة والبعث، وإبراز شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتأييده بالمعجزات الكافية للدلالة على صدقه، وتفنيد شبهات كثيرة للمشركين.