
الجزء العشرون
[تتمة سورة النحل]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ نَقُولَ: إِنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُسْنَدَةٌ إِلَى الِاتِّصَالَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالتَّشَكُّلَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِحَرَكَاتِهَا وَاتِّصَالَاتِهَا مِنْ أَسْبَابٍ، وَأَسْبَابُ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ إِمَّا ذَوَاتُهَا وَإِمَّا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ لَهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَلَوْ كَانَ جِسْمٌ عِلَّةً لِصِفَةٍ لَكَانَ كُلُّ جِسْمٍ وَاجِبَ الِاتِّصَافِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَاتَ الْجِسْمِ لَوْ كَانَتْ عِلَّةً لِحُصُولِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ لَوَجَبَ دَوَامُ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْحَرَكَةِ بِدَوَامِ تِلْكَ الذَّاتِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ بَقَاءُ الْجِسْمِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَصْلًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا، وَيَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْجِسْمَ مُتَحَرِّكٌ لِذَاتِهِ يُوجِبُ كَوْنَهُ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى عَدَمِهِ كَانَ بَاطِلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِكَوْنِهِ جِسْمًا، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ أَوْ مُبَايِنًا عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ البحث الْمَذْكُورَ عَائِدٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ بعينه لم اخْتُصَّ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ بِعَيْنِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ أَجْسَامِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ أُمُورٌ مُبَايِنَةٌ عَنْهَا، وَذَلِكَ الْمُبَايِنُ إِنْ كَانَ جِسْمًا أَوْ جُسْمَانِيًّا عَادَ التَّقَسُّمُ/ الْأَوَّلُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا وَلَا جُسْمَانِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْسَامِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَجْسَامِ بِقَبُولِ بَعْضِ الْآثَارِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحَرِّكَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ الْمُنَزَّهُ عَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَجُسْمَانِيًّا، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّا وَلَوْ حَكَمْنَا بِإِسْنَادِ حَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالْكَوْكَبِيَّةِ فَهَذِهِ الْحَرَكَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ، وَالْفَلَكِيَّةُ لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَى أَفْلَاكٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَمُدَبِّرُهَا هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةَ حَادِثَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَانَ هَذَا اعْتِرَافًا بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِحْدَاثِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ السُّفْلِيَّةُ لِأَجْلِ صفحة رقم 185

تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَحَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَمَّا تَمَّ هَذَا الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا جَرَمَ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا عَلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّسَلْسُلِ بَاطِلٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَدِيرِ فَهَذَا تَقْرِيرُ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَنْ نَقُولَ: نَحْنُ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لِأَجْلِ تَأْثِيرِ الطِّبَاعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْأَنْجُمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، ثُمَّ نَرَى أَنَّهُ إِذَا تَوَلَّدَ الْعِنَبُ كَانَ قِشْرُهُ عَلَى طَبْعٍ وَعَجَمُهُ عَلَى طَبْعٍ وَلَحْمُهُ عَلَى طَبْعٍ ثَالِثٍ وَمَاؤُهُ عَلَى طَبْعٍ رَابِعٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّا نَرَى فِي الْوَرْدِ مَا يَكُونُ أَحَدُ وَجْهَيِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي: مِنْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَتِلْكَ الْوَرَقَةُ تَكُونُ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِسْبَةَ الْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ إِلَى وَجْهَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ الرَّقِيقَةِ، نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: شَكْلُ الْبَسِيطِ هُوَ الْكُرَةُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهًا، وَالشَّكْلُ الَّذِي يَتَشَابَهُ جَمِيعُ جَوَانِبُهُ هُوَ الْكُرَةُ، وَأَيْضًا إِذَا وَضَعْنَا الشَّمْعَ فَإِذَا اسْتَضَاءَ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّمْعِ مِنْ أَحَدِ الْجَوَانِبِ، وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ مِثْلُ هَذَا الْأَثَرِ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ يَجِبُ أَنْ تَتَشَابَهَ نِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ الْجَوَانِبِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ نِسْبَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى وَجْهَيْ/ تِلْكَ الْوَرَقَةِ اللَّطِيفَةِ الرَّقِيقَةِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَثَبَتَ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْمُؤَثِّرَةَ مَتَى كَانَتْ نِسْبَتُهَا وَاحِدَةً كَانَ الْأَثَرُ مُتَشَابِهًا وَثَبَتَ أَنَّ الْأَثَرَ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ، لِأَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ تِلْكَ الْوَرَقَةِ فِي غَايَةِ الصُّفْرَةِ، وَالوجه الثَّانِي فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُصُولِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَحْوَالِ لَيْسَ هُوَ الطَّبِيعَةَ، بَلِ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدَارُ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ وَبِالطَّبِيعَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكُلِّ نِسْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا دَلَّ الْحِسُّ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَتَنَافُرِ أَحْوَالِهَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَيْسَ وَاجِبًا بِالذَّاتِ بَلْ فَاعِلًا مُخْتَارًا فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَثَبَتَ أَنَّ خَتْمَ الْآيَةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَالْآيَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ هُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ وَالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَلْطَافِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ:
مُسَخَّراتٌ وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَالنُّجُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالنُّجُومُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ لَفْظُ التَّسْخِيرِ، إِذِ الْعَرَبُ لَا تَقُولُ سَخَّرْتُ هَذَا الشَّيْءَ مُسَخَّرًا فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لَنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الصَّحِيحُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَهَا مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِهَا حَالَ كَوْنِهَا مُسَخَّرَةً تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرِيرُ الْخَالِي عَنِ الفائدة غير لازم والله علم. بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: