المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم، أعقبهم بذكر حال السعداء من أهل النعيم، ثم ذكر قصص بعض الرسل مع أقوامهم «لوط، وشعيب، وصالح» تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسى بهم في الصبر، ثم ذكر الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وختم السورة ببشارته عليه السلام بإهلاك أعدائه المستهزئين.
اللغَة: ﴿نَصَبٌ﴾ تعب وإعياء ﴿وَجِلُونَ﴾ خائفون فزعون ﴿الغابرين﴾ الباقين في العذاب ﴿القانطين﴾ القنوط: كمالُ اليأس ﴿تَفْضَحُونِ﴾ الفضيحةُ: أن يُظهر من أمره ما يلزمه به العارُ، يقال: فضحه الصبح إذا أظهره للناس قال الشاعر:
ولاح ضوءُ هلالٍ كاد يفضحنا | مثلُ القلامةِ قد قُصَّت من الظُّفُر |
إني توسَّمتُ فيك الخير أعرفه | والله يعلم أني ثابتُ البصر |
الأيكة} الشجرة الملتفَّة وجمعها أيْك ﴿الحجر﴾ اسم واد كانت تسكنه ثمود ﴿عِضِينَ﴾ أجزاءٌ متفرقة من التعضية وهي التجزئة والتفريق ﴿اليقين﴾ الموت لأنه أمر متيقن.
سَبَبُ النّزول: روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنةُ والنار؟ فشقَّ ذلك عليهم فنزلت ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ ».
التفسِير: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل ﴿ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ أي يقال لهم: أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء ﴿إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه قال مجاهد: لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الانس والإِكرام، وقال ابن عباس: على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب ﴿وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ أي لا يُخرجون منها ولا يُطردون، نعيمهم خالد، وبقاؤهم دائم، لأنها دار الصفاء والسرور ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم﴾ أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب قال أبو حيان: وجاء قوله ﴿وَأَنَّ عَذَابِي﴾ في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة (وأني المعذّب المؤلم) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً﴾ أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه ﴿قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم، عظيم الذكاء، هو إسحاق ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم، فبأي شيء تبشروني؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين﴾ أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون﴾ استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، الجاهلون برب الأرباب، أما القلب العامر بالإِيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط قال البيضاوي: وكان تعجب إبراهيم عليه السلام با.
.. العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن
يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر؟ ولذلك أجابهم بذلك الجواب ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون﴾ أي قال إبراهيم ما شأنكم وما أمركم الذي جئتم من أجله أيها الملائكة الكرامُ؟ ﴿قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ أي أرسلنا ربنا إلى قومٍ مشركين ضالين لإِهلاكهم يعنون قوم لوط ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي إلا أتباعَ لوط وأهلَه المؤمنين، فسننجيهم من ذلك العذاب أجمعين ﴿إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين﴾ أي إلا امرأة لوط فقد قدَّر الله بقاءها في العذاب مع الكفرة الهالكين قال القرطبي: استثنى من آل لوطٍ امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك ﴿فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون﴾ أي فلما أتى رسلُ الله لوطاً عليه السلام ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي قال لهم إنكم قوم لا أعرفكم فماذا تريدون؟ ﴿قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أي قالوا له بل نحن رسل الله، جئناك بما كان فيه قومك يشكُّون فيه وهو نزول العذاب الذي وعدتهم به ﴿وَآتَيْنَاكَ بالحق وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ أي أتيناك بالحق اليقين من عذابهم وإنا لصادقون فيما نقول ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل﴾ أي سرْ بأهلك في طائفةٍ من الليل ﴿واتبع أَدْبَارَهُمْ﴾ أي كنْ من ورائهم وسرْ خلفهم لتطمئنَّ عليهم ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ أي لا يتلفتْ أحد منكم وراءه لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم فيرتاع ﴿وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ أي سيروا حيث يأمركم الله عَزَّ وَجَلَّ قال ابن عباس: يعني الشام ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ أي أوحينا إلى لوط ذلك الأمر العظيم أن أولئك المجرمين سيُستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ أي إذا دخل الصباح تمَّ هلاكهم واستئصالهم ﴿وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي جاء أهل مدينة سدوم - وهم قوم لوطٍ - مسرعين يستبشرون بأضيافه، طمعاً في ارتكاب الفاحشة بهم، ظناً منهم أنهم أناسٌ أمثالهم قال المفسرون: أُخبر أولئك السفهاء أن في بيت لوطٍ شباناً مرداً حساناً فأسرعوا فرحين يبشّر بعضهم بعضاً بأضياف لوط ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ﴾ أي هؤلاء ضيوفي فلا تقصدوهم بسوء فتُلحقوا بي العار وتفضحوني أمامهم ﴿واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ﴾ أي خافوا الله أن يحلَّ بكم عقابه، ولا تهينوني بالتعرض لهم بالمكروه ﴿قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين﴾ أي قالوا ألم نمنعك عن ضيافة أحد؟ قال الرازي: المعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحدٍ من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ ﴿قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أي هؤلاء النساء فتزوجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام
صفحة رقم 105إن كنتم تريدون قضاء الشهوة قال المفسرون: المراد بقوله ﴿بَنَاتِي﴾ بناتُ أمته لأن كل نبيٍّ يعتبر أباً لقومه ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي وحياتك يا محمد إن قوم لوط لفي ضلالهم وجهلهم يتخبطون ويترددون، وهذه جملة اعتراضية جاءت ضمن قصة لوط قسماً بحياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكريماً له وتشريفاً قال ابن عباس: «ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرمَ على الله من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما سمعتُ اللهَ أقسم بحياة أحدٍ غيره» ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ﴾ أي أخذتهم صيحةُ العذاب المهلكة المدمرة وقت شروق الشمس ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ أي قلبناها بهم فجعلنا أعالي المنازل أسافلها قال المفسرون: حمل جبريل عليه السلام قريتهم واقتعلها من جذورها، حتى رأوا الأفلاك وسمعوا تسبيح الأملاك ثم قلبها بهم ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي أنزلنا عليهم حجارة كالمطر من طين طبخ بنار جهنم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ أي فيما حلَّ بهم من الدمار والعذاب للدلالات وعلامات للمعتبرين، المتأملين بعين البصر والبصيرة ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ﴾ أي وإن هذه القرى المهلكة، وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه، لبطريقٍ ثابتٍ لم يندرس، يراها المجتازون في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي لعبرةً للمصدّقين ﴿وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ﴾ أي وإنه الحال والشأن كان قوم شعيب - وهم أصحاب الأيكة أي الشجر الكثير المتلف - لظالمين بتكذيبهم شعيباً، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان ﴿فانتقمنا مِنْهُمْ﴾ أي أهلكناهم بالرجفة وعذاب يوم الظُلَّة قال المفسرون: اشتد الحر عليهم سبعة أيام حتى قربوا من الهلاك، فبعث الله عليهم سحابة كالظلة، فالتجئوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ أي وإن قرى قوم لوط وشعيب لطريق واضح أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة؟ ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين﴾ هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام أي كذبت ثمود نبيَّهم صالحاً - والحجرُ وادٍ بين المدينة والشام وآثاره باقية يمرُّ عليها المسافرون - قال البيضاوي: ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع ولذا قال ﴿المرسلين﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ أي وأريناهم معجزاتنا الدالة على قدرتنا مثل الناقة وما فيها من العجائب فكانوا لا يعتبرون بها ولا يتَّعظون قال ابن عباس: كان في الناقة آيات: خروجُها من الصخرة، ودنوُّ ولادتها عند خروجها، وعظمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً فلم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ﴾ أي كانوا ينقبون الجبال فيبنون فيها بيوتاً آمنين يحسبون أنها تحميهم من عذاب الله ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ﴾ أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي ما دفع عنهم عذابَ الله ما كانوا يشيدونه من القلاع والحصون ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾ أي وما خلقنا الخلائق كلَّها سماءها وأرضها وما بينهما إلا خلقاً ملتبساً بالحق، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء المكذبين لئلا يعم الفساد {وَإِنَّ
صفحة رقم 106
الساعة لآتِيَةٌ فاصفح الصفح الجميل} أي وإن القيامة لآتيةٌ لا محالة فيُجازى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء السفهاء وعاملهم معاملة الحليم ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم﴾ أي الخالق لكل شيء، العليمُ بأحوال العباد ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني﴾ أي ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات هي الفاتحة لأنها تثنّى أي تكرر قراءتها في الصلاة وفي الحديث
«الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه» وقيل: هي السور السبع الطوال، والأول أرجح ﴿والقرآن العظيم﴾ أي وآتيناك القرآن العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
١٦٤٨ - ; مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾ أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم، وكفى بإِنزال القرآن عليك نعمة ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي لا تحزن لعدم إيمانهم ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم ﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾ أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار ﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين﴾ الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فانقسموا إلى قسمين ﴿الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ أي جعلوا القرآن أجزاءٌ متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة قال ابن عباس: آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم له بقولهم سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجميعن عما كانوا يعملون في الدنيا ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين﴾ أي فاجهر بتبليغ أمر ربك، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين﴾ أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش ﴿الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين﴾ أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله ﴿واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين﴾ أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الإِيجاز بالحذف في ﴿ادخلوها بِسَلامٍ﴾ أي يقال لهم أدخلوها.
٢ - المقابلة اللطيفة في ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم﴾ مع الآية بعدها ﴿وَأَنَّ عَذَابِي﴾ فقد قابل بين العذاب والمغفرة وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم، وهذا من المحسنات البديعية.
٣ - الكناية في ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ كنَّى به عن عذاب الاستئصال.
٤ - المجاز في ﴿قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين﴾ أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازاً
وهو لله وحده وذلك لما لهم من القرب والاختصاص لأنهم رسل الله أُرسلوا بأمره تعالى.
٥ - الجناس الناقص في ﴿الصيحة مُصْبِحِينَ﴾ وجناس الاشتقاق في ﴿فاصفح الصفح﴾.
٦ - صيغة المبالغة في ﴿الغفور الرحيم﴾ وفي ﴿الخلاق العليم﴾.
٧ - الطباق في ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾.
٨ - السجع بلا تكلف في مواطن عديدة مثل ﴿آمِنِينَ، مُّصْبِحِينَ، مُعْرِضِينَ﴾.
٩ - عطف العام على الخاص في ﴿سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾.
١٠ - الاستعارة التبعية في ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث شبّه إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كلٍ واستعير اسم المشبَّه به للمشبَّه، وهذا من بليغ الاستعارات لأن الطائر إذا كف عن الطيران خفض جناحيه.
تنبيه: الجمع بين هذه الآية ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وبين قوله ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ [القصص: ٧٨] وقوله ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩] أن القيامة مواطن، فموطنٌ يكون فيه سؤال وكلام، وموطنٌ لا يكون ذلك فيه، هذا قول عكرمة، وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا، لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟