
وتعظيم. والقول الحق الصحيح وهو قول جمهور الصحابة والتابعين أن المراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به. وقال المعتزلة: هم الذين اتقوا جميع المعاصي.
٢- لا يتعرض أهل الجنة لشيء من الأضرار والمؤذيات، فهم في خلوص من شوائبها الروحانية كالحقد وغيره، والجسمانية كالتعب والمرض، وهم في نعمة وكرامة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، تواصلا وتحاببا.
٣- إن نعيم الجنة دائم لا يزول، وإن أهلها باقون: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرعد ١٣/ ٣٥] إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ [ص ٣٨/ ٥٤].
٤- الجنات أربع والعيون أربع، أما عدد الجنات فلقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن ٥٥/ ٤٦] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن ٥٥/ ٦٢]. وأما العيون فهي أربعة أيضا وهي المذكورة في الآية المتقدمة:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ...
المغفرة والعذاب
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
البلاغة:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ يوجد مقابلة بين العذاب والمغفرة، وبين الرحمة والعذاب.

المفردات اللغوية:
نَبِّئْ أخبر يا محمد. الْغَفُورُ للمؤمنين. الرَّحِيمُ بهم. وَأَنَّ عَذابِي للعصاة. الْأَلِيمُ المؤلم.
قال البيضاوي: وفي ذكره المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: «أتضحكون، وذكر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اطلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال:
«لا أراكم تضحكون، ثم أدبر ثم رجع القهقرى، فقال: إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر، جاء جبريل، فقال: يا محمد، إن الله يقول: لم تقنط عبادي:
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله: نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية، فقال: نَبِّئْ عِبادِي وهو إخبار عن سنة الله في عباده

أنه غفار لذنوب التائبين المنيبين إلى ربهم، ومعذّب بعذاب مؤلم من أصروا على المعاصي ولم يتوبوا منها.
التفسير والبيان:
أخبر يا محمد عبادي أني ذو مغفرة ورحمة، وذو عذاب أليم. وهذا دال على مقامي الرجاء والخوف. فالله تعالى يستر ذنوب من تاب وأناب، فلا يفضحهم ولا يعاقبهم، ويرحمهم فلا يعذبهم بعد توبتهم. وهذا يشمل المؤمن الطائع والعاصي.
وأخبرهم أيضا بأن عذابي لمن أصرّ على الكفر والمعاصي ولم يتب منها هو العذاب المؤلم الشديد الوجع. وهذا تهديد وتحذير من اقتراف المعاصي.
ففي الآية كغيرها من الآيات الكثيرة جمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ليكون الناس بين حالي الرجاء والخوف.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال في قوله تعالى:
نَبِّئْ عِبادِي الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله، لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله، لبخع نفسه».
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار».
ورواية مسلم هي: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد».

فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية دليل على آخر على وسطية الإسلام، فينبغي للإنسان أن يذكّر نفسه وغيره، فيخوّف ويرجّي، ويكون الخوف في حال الصحة أغلب عليه منه في حال المرض، فهو في حال دائمة بين الخوف والرجاء لأن القنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوسطها.
فالله تعالى وسعت رحمته كل شيء، وهو كثير المغفرة لمن تاب وأناب، ولكنه أيضا لتحقيق التوازن وقمع الفاحشة والمنكر والشرك شديد العذاب لمن أصرّ على معصيته، ومات قبل التوبة والإنابة، وذلك هو العدل المطلق.
وكل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كون الله غفورا رحيما، ومن أنكر ذلك، كان مستوجبا للعقاب الأليم لأنه كما يقول الأصوليون: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم أو «تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق». فقد وصفهم بكونهم عبادا له، ثم ذكر عقيب هذا الوصف: الحكم بكونه غفورا رحيما.
قال الرازي: وفي الآية لطائف:
إحداها- أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: عِبادِي وهذا تشريف عظيم.
وثانيها- لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة هي:
أَنِّي وأَنَا وإدخال الألف واللام على قوله: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ولما ذكر العذاب لم يقل: إني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.
وثالثها- أنه أمر رسوله بأن يبلغهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.