
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: ٦٢] الآية.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مِنْ حَدِيثِ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ قَالَ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ قَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثم خلق ملائكة أخرى فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ مَلَائِكَةً أُخْرَى فَقَالَ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا أَنَا خَلَقْتُهُ فَاسْجُدُوا لَهُ فَأَبَوْا، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ خَلَقَ مَلَائِكَةً فَقَالَ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا أَنَا خَلَقْتُهُ فَاسْجُدُوا لَهُ، قَالُوا:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَفِي ثُبُوتِ هَذَا عَنْهُ بُعْدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٨]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
يذكر تعالى أنه أمر إبليس أَمْرًا كَوْنِيًّا لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنَّهُ رَجِيمٌ أَيْ مَرْجُومٌ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتْبَعَهُ لَعْنَةً لَا تَزَالُ مُتَّصِلَةً بِهِ لَاحِقَةً لَهُ مُتَوَاتِرَةً عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ، تَغَيَّرَتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَرَنَّ رَنَّةً، فَكُلُّ رَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْهَا، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ الْغَضَبُ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ، سَأَلَ مِنْ تَمَامِ حَسَدِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَإِمْهَالًا، فلما تحقق النظرة قبحه الله.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٩ الى ٤٤]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣)
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِلرَّبِّ: بِما أَغْوَيْتَنِي قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَقْسَمَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ. (قُلْتُ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِسَبَبِ مَا أَغْوَيْتَنِي وَأَضْلَلْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أَيْ لِذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ أَيْ أُحَبِّبُ إِلَيْهِمُ الْمَعَاصِيَ وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهَا وَأُؤَزِّهُمْ إِلَيْهَا، وأزعجهم إليها إزعاجا وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي كما أغويتني وقدرت عليّ ذلك إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٦٢].

قالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ مَرْجِعُكُمْ كُلُّكُمْ إِلَيَّ، فَأُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ:
١٤]. وَقِيلَ: طَرِيقُ الْحَقِّ مَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي، قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النَّحْلِ: ٩] وَقَرَأَ قَيْسُ بن عبادة وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: ٤] أَيْ رَفِيعٌ وَالْمَشْهُورُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى.
وَقَوْلُهُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي الذي قَدَّرْتُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِمْ وَلَا وُصُولَ لَكَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ قُسَيْطٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَكُونُ لَهُمْ مَسَاجِدُ خَارِجَةً مِنْ قُرَاهُمْ، فَإِذَا أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْبِئَ رَبَّهُ عَنْ شَيْءٍ خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَصَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثم سأله مَا بَدَا لَهُ، فَبَيْنَا نَبِيٌّ فِي مَسْجِدِهِ إِذْ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ- يَعْنِي إِبْلِيسُ- حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَالَ: فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَنْجُو مِنِّي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: بَلْ أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ مَرَّتَيْنِ؟ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: قَدْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُولَدَ.
قَالَ النَّبِيُّ: وَيَقُولُ اللَّهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إِلَّا اسْتَعَذْتُ بِاللَّهِ مِنْكَ. قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: صَدَقْتَ بِهَذَا تَنْجُو مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ: أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟ قَالَ آخُذُهُ عِنْدَ الغضب والهوى.
قوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ جَهَنَّمُ مَوْعِدُ جَمِيعِ مَنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ، كَمَا قَالَ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ: ١٧]، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ أَيْ قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ يَدْخُلُونَهُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا، وَكُلٌّ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله. قَالَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ وَشُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ هَكَذَا- قَالَ أَبُو هَارُونَ- أَطْبَاقًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هبيرة بن أبي يَرِيمَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَبْوَابُ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَمْتَلِئُ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تمتلئ كلها.