كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ».. فهو مما فى خزائن الله، وفى ملكه، وليس للناس قطرة منه إلا ما يجود الله به عليهم منه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ».. هو كشف لبعض قدرة الله، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (٨٨: القصص).. والله سبحانه يرث الأرض ومن عليها: «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه الله الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ»..
هو كذلك كشف عن بعض علم الله، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».. (١٤: الملك) قوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة الله، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال فى دنياهم، وهو سبحانه «عَلِيمٌ» بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم..
الآيات: (٢٦- ٥٠) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٥٠]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
التفسير:
تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له،
فسجدوا إلّا إبليس، فقد أبى أن يسجد، فلعنه الله وطرده.. ثم تذكر الآيات موقف إبليس من ربه سبحانه وتعالى، وتحدّيه لآدم وذريته، بإغوائهم، وإفسادهم، وخروجهم عن طاعة الله، ثم طلبه إلى الله سبحانه أن يؤخره إلى يوم القيامة، حتى تتاح له الفرصة فى أبناء آدم.. وقد أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وحذّر أبناء آدم منه، ونههم إلى هذا العدو المتربص بهم..
وقد وردت هذه القصة فى أكثر من موضع من القرآن، شأنها فى هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء فى معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل..
وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة فى سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل فى هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة فى سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان..
ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى فى التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا فى بلاغته..
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ..»
فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس)، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها..
فآدم، خلق من صلصال من حمأ مسنون..
والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة..
والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر فى ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف «بالمسنون» أي المسوّى والمشكل فى أشكال وقوالب..
وقد ورد فى آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب..
وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق..
ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان فى هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية فى باكورة إنسان.. هو «آدم» ! أما «الجانّ» فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان..
وقد ذكر فى القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين..
وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- فى الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء..
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ».
هنا يحدّث القرآن عن أن الله سبحانه وتعالى قد آذن للملائكة قبل خلق آدم، وقبل ميلاده المنتظر فى سلسلة التطور، آذنهم- سبحانه- بأن ينتظروا ميلاد هذا الكائن، وأن يسجدوا له ساعة مولده، سجود ولاء لله، وتمجيد لقدرته وحكمته إذ يشهدون هذا الطين يتحرك فى أحشاء الزمن، فيتمخض عن كائنات عجيبة.. ثم يلد أعجب مولود، هو هذا الإنسان، الذي ينطق، ويعقل، ويكون خليفة الله فى الأرض، ويقف بين يديه الملائكة موقف التلاميذ من أستاذهم، يتعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون..
فالسجود لآدم فى حقيقته، سجود لله سبحانه، فى مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» - إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة فى بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ».
- وفى قوله تعالى: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» - إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته..
والفعل «قعوا» هو أمر من الفعل «وقع» والأمر منه «قع» فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: «قعوا».. أي اسقطوا وخرّوا..
هذا، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فى موضع آخر، فقال تعالى:
«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (٧١- ٧٢: ص).
وهذا يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد لفت الملائكة أول الأمر إلى المرحلة الأولى من مراحل هذا الخلق الذي سيخرج من هذا الكائن البشرى..
وأن أول هذه المراحل، هى الطين.. وقد أخذ الملائكة منذ هذه اللفتة، يرقبون هذا الطين، ويلحظون مسيرته فى خط الحياة..
ثم حين انتقل الطين إلى مرحلة أخرى، هى مرحلة الصلصال، والحمأ المسنون- لفت سبحانه وتعالى الملائكة مرة أخرى إلى هذا التغيير الذي حدث للطين، والذي بدأ يأخذ طريقه متحركا نحو الغاية المؤدية إلى ظهور هذا الإنسان الذي ستلده الحياة المتولدة من هذا الطين، والذي يجب على الملائكة أن يستقبلوا مولده بالسجود فإن السجود لهذا المولود هو سجود لآيات الله، وما تجلى فيها من رائع حكمته وقدرته..
ويلاحظ أن هذين الأمرين الموجهين توجيها مباشرا إلى الملائكة بالسجود لآدم، يتضمنان الصفة التي يكون عليها هذا السجود، وهو أن يكون سجودا مستوليا على كيان الملائكة، بحيث يخرون خرّا، ويتهاوون هويّا: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ».
[إبليس ومن له سلطان عليهم]
«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..»
وإنها لجرأة عجيبة أن يخرج هذا المخلوق الشقىّ عن أمر ربه، وأن يتحدّى
الله سبحانه وتعالى هذا التحدّى الوقاح السافر.. ولكن تلك هى مشيئة الله فى هذا المخلوق الشقىّ التعس.. وقد أراده- سبحانه- ليكون، الظلام الذي يواجه النور، والشرّ الذي يقابل الخير.. وبهذا تتمايز الأمور، وتنكشف حقائق الأشياء.. إذ لولا الظلام ما عرف النور، ولولا الشرّ ما استبان الخير.. وهكذا كل ضدّ يكشف عن ضده.. «وبضدّها تتميز الأشياء» !: «قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»..
وإنها لشقوة غالبا، وبلاء مبين، وضلال تعمى معه البصائر، وتذهب العقول..
يسأله الحق جلّ وعلا، «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ؟ وذلك ليأخذ اعترافه من فمه، وإلّا فالله سبحانه عالم بما سيقول هذا الشقىّ، مستغن عن أن يسأل، وعن أن ينطق إبليس بما نطق به..
ولقد نطق إبليس بهذا التحدّى لوقاح، «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ».. وفى آية أخرى كشف إبليس عن حجته الضّالة فى إبائه السجود لآدم، فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ! (١٢: الأعراف).
ومن أين لهذا اللّعين أن النار خير من الطين؟ وما وجه الخيريّة فى النّار؟
إنه الضلال، ولا شىء غيره، هو الذي زيّن لهذا الغوىّ رأيه فى نفسه.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أهل الغواية والضلال: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (٣٢: الروم)..
: «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ».
ذلك هو جزاء الظالمين.. الطرد من رحمة الله، واللعنة المصاحبة لهم إلى يوم القيامة، حيث يلقون العذاب الأليم المعدّ لهم.
والرجيم هو المرجوم.. وما يرجم به هنا هو اللعنة.
والضمير فى قوله تعالى «مِنْها» يعود إلى الجنة التي كان فيها..
: «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».
وهكذا يعمى الضلال أهله، ويلقى بهم فى ظلمات المهالك، فلا يخرجون من مهلكة إلا إلى مهلكة..
فلقد أبت على إبليس شقوته إلّا أن يشرب كأس اللعنة إلى آخر قطرة فيها.. فطلب إلى ربه أن يمدّ له فى أجله، وألا يعجّل له العذاب قبل يوم القيامة، وذلك ليثأر لنفسه من هذا الإنسان الذي كان سببا مباشرا فى طرده من رحمة الله، وإلباسه لباس اللعنة.. بل وربما حدّثت هذا الشقىّ نفسه أن يتحدى الله، وأن يحاجّه فى آدم، وفى أنه أفضل منه، وأن امتناعه عن السجود له، كان عن حق، وأنه خير من هذا المخلوق، وما كان للأعلى أن يسجد للأدنى!! هكذا يبلغ الغرور بهذا الأحمق المغرور، فيقيم نظره كله على آدم، ولا ينظر إلى الله سبحانه، ولا يقع فى تصوره أن الله سبحانه هو الذي أمره بالسجود، وأنه ينبغى للمخلوق أن يمتثل أمر الخالق، دون مراجعة أو اعتراض! ولو كان هذا اللعين قد نظر إلى نفسه، ولم يعمه الحقد الأعمى- لكان له فى باب الرجاء عند الله متسع، ولكان طلبه من الله أن يؤخره إلى يوم الدين، التماسا للعافية من هذا البلاء الذي نزل به، فيرجع إلى الله من قريب، ويستغفر
لذنبه، فيجد ربّا غفورا يقبل توبة التائبين، ويكفر عنهم من سيئاتهم..
ولكنه أبى إلا أن يهلك نفسه، فى سبيل إهلاك غيره، وإشباع شهوة الانتقام من عدوّه..
: «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».
الإغواء: الإضلال، بتزيين القبيح، والإغراء به.
وبهذا القسم يتحدى إبليس أبناء آدم، ويلقاهم على طرق الضلال، فيغويهم بركوبها، ويغريهم بمتابعة خطوه عليها، ويمنّيهم الأمانىّ الكاذبة التي تلقى بهم بين يديه! فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» هى باء القسم، والتقدير: يحق ما أغويتنى: أي أضللتنى «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي لأفتننهم بما على الأرض من أشياء، أزينها لهم، وأغريهم بها، فيشغلون عن ذكرك، ويكفرون بنعمك، فيقعون تحت طائلة نقمتك وعذابك.
وهذا القسم يكشف عنه قوله تعالى فى موضع آخر: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (٨٢: ص).
ويجوز أن تكون الباء للسببية، أي بسبب إغوائك لى، وأن تكون اللام فى قوله تعالى: «لَأُزَيِّنَنَّ» لام الأمر، الداخلة على الفعل المضارع، وأن إبليس قد ألزم نفسه بهذا العمل إلزاما، ليردّ به على هذا الإغواء.
وفى قصر التزين على الأرض، إشارة صريحة إلى أن إبليس قد أغوى آدم وزين له حتى أكل من الشجرة، وهو على هذه الأرض، وفى هذا دليل على أن ميلاد آدم كان على هذه الأرض، ولم يكن فى السماء..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» استثناء من هذا الوعيد الذي توعد به إبليس أبناء آدم.. فهو يعرف أن لله سبحانه وتعالى فى أبناء آدم أصفياء، أحلصهم لنفسه، واصطفاهم لطاعته، وأرادهم لجنته.. وهؤلاء لا سبيل لإبليس عليهم.. فقد سبقه قضاء الله فيهم، وأنهم من أهل جنته ورضوانه..
والمخلص: هو الخالص من كل سوء، المصفّى من كل شائبة..
أما من يتسط عليهم إبليس، ويتمكن من النّيل منهم، فهم أولئك الذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم، ولا أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (٤١: المائدة).
«قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ».
- الإشارة فى قوله تعالى: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» هى إشارة إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه السالكون إلى الله، ممن رضى الله عنهم، كما يقول سبحانه: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»..
فهذا الصراط هو الذي يسلكه عباد الله لمخلصون، وليس لإبليس سلطان على أحد ممن سلك هذا السبيل، واستقام على هذا الصراط.. لأن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على نفسه حراسة المستقيمين عليه، من كيد الشيطان وإغوائه.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ»..
فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، وقد أضافهم سبحانه إلى نفسه، وأظلهم بحمايته ورعايته، وحرسهم من كل شيطان رجيم..
ويقوّى هذا المعنى قراءة من قرأ: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» أي هذا صراط عال لا يناله إبليس بكيده ومكره، وهو صراط الله، الذي دعا عباده إليه.
- وقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ».. هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».. وفى إضافة الناس جميعا إلى الله سبحانه، هكذا: «عبادى» - فى هذا إشارة إلى أن الإنسان- أي إنسان- يحمل فى فطرته ما يستطيع أن يدفع به كيد الشيطان، فلا ينال منه.. هكذا هم عباد الله، وهم الناس جميعا.. ولكن من عباد الله من يعمل على إفساد فطرته، فيعطى الشيطان فرصته فيه.. وبهذا يكون من الغاوين، الذين أغواهم الشيطان، فاستجابوا له، وكانوا جندا من جنده الضالين الغاوين.
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» الضمير فى قوله تعالى: «لَمَوْعِدُهُمْ» يعود إلى الغاوين، الذين ذكرهم سبحانه فى قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ»..
فهؤلاء الغاوون الضالّون، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وكل من عبد غير الله، أو اتخذ مع الله شريكا- هؤلاء جميعا يلتقون عند جهنم، فهذا هو الموعد الذي يلتقون عنده.. فكما كان التقاؤهم فى الدنيا على الضلال والكفر، كذلك يكون التقاؤهم فى الآخرة على أبواب جهنم وعذاب السعير.
- وفى قوله تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» إشارة إلى أن جهنم دركات ومنازل، عددها سبعة.. وأن أصناف الضالين يصنّفون حسب درجات ضلالهم إلى سبعة أصناف، كل صنف منهم ينزل منزلة من منازل جهنم السبعة، ويدخل إلى مكانه فيها من الباب الذي يؤدى به إلى هذا المكان.
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» وإذا كان أولياء الشيطان قد نزلوا هذا المنزل لدّون، يلقون فيه ما يلقون من عذاب وهوان- فإن أولياء الرحمن، وعباده الّذين لم يكن للشيطان سبيل إليهم- هؤلاء موعدهم جنات النعيم، حيث العيون التي تغذّى هذه الجنّة، وتفجّر الحياة فيها.. فالعيون يحقّها دائما الشجر، والظل، والثمر.
- وفى قوله تعالى «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» تحية طيبة، يؤذن بها للمؤمنين بدخول الجنة، على مسمع من أهل النار، فيزيد شقاؤهم، وتعظم مصيبتهم..
وفى العدول من الغيبة إلى الخطاب احتفاء بالمؤمنين، واستدعاء لهم من قبل الله سبحانه، ليسمعوا هذا الأمر المسعد لهم من ربّ العالمين:
«ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ».. ادخلوها إخوانا متحابين.
- وقوله تعالى: «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» إشارة إلى الحياة التي يحياها أهل الجنة، وأنها حياة أمن، وسلام، وراحة.. فلا عمل إلا ذكر الله، والتسبيح بحمده، والشكر لنعمه.. ومن تمام هذا النعيم أن الذي فيه لا يتهدده خوف من أن يفارقه هذا النعيم أبدا، أو يفارق هو هذا النعيم..
بل هو نعيم دائم متصل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ».
«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.»
الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب لعباد الله جميعا، وبلاغ لهم كلهم، بأنهم عباد الله، وأن ربّهم الذي خلقهم وأضافهم إليه، هو رب غفور رحيم.. مغفرته شاملة، ورحمته عامة، تسع كل شىء..
وكذلك هو سبحانه- مع رحمته- ذو عذاب أليم، لمن كفر به، وأعطى
ولاءه لغيره، أو لمن طمع فى رحمته، ولم يرع حرماته، مجترئا عليه، مضيفا آثامه وذنوبه إلى رحمة الله ومغفرته.. فذلك مخادعة لله، ومكر بآياته.
فمن آمن بمغفرة الله الشاملة، ورحمته الواسعة، آمن به ربّا كريما رحيما، محسنا، وكان ذلك داعيا إلى حبّ الله وطاعته، لا إلى عصيانه ومحاربته..!
فالحال التي ينبغى أن يكون عليها العبد مع ربّه هى الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه..
فالطمع يحرسه من اليأس إذا هو واقع إثما، أو ارتكب معصية.. والخوف يحرسه من أن يأتى الفواحش، أو يترخّص فيها، ولا يتأثم عند ما يضعف أمام هواه، فيقع فى المنكر..
وقد امتدح الله المؤمنين الذين يخشون ربّهم بالغيب، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من ألا يقبل منهم ذلك الإيتاء.. وفى هذا يقول تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (٦٠- ٦١: المؤمنون).
وقد روى عن بعض الصالحين أنه كان يقول: «لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنّه معذّبى لا محالة، ما ازددت إلا اجتهادا، لئلا أرجع على نفسى بلائمة».
ذلك هو ما يمليه العقل السليم، وما توحى به الفطرة، التي لم تفسدها الأهواء وتغتالها الضلالات.