
[الْفُرْقَانِ: ٢١- ٢٢]، وَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ «١»، ثُمَّ قَرَّرَ تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذِّكْرَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْحَافِظُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ لَحافِظُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: إِنَّهُ أَرْسَلَ مَنْ قَبْلَهُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِنَّهُ ما أتى أمة من رَسُولٌ إِلَّا كَذَّبُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَكَ التَّكْذِيبَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ عَانَدُوا وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى قَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني الشرك «٢». وقوله قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَيْ قَدْ عَلِمَ مَا فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَكَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الدنيا والآخرة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُوَّةِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ لَهُمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَجَعَلُوا يَصْعَدُونَ فِيهِ لما صدقوا بذلك، بل قالوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالضَّحَّاكُ: سُدَّتْ أَبْصَارُنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخِذَتْ أَبْصَارُنَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شُبِّهَ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا سُحِرْنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَمِيَتْ أَبْصَارُنَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، السَّكْرَانُ الذي لا يعقل «٣».
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٤٩٤.
(٣) انظر تفسير الطبري ٧/ ٤٩٨. [.....]

يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ السَّمَاءَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَمَا زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، مَا يَحَارُ نَظَرُهُ فيه، وبهذا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْبُرُوجُ هَاهُنَا هِيَ الْكَوَاكِبُ. (قلت) : وهذا كقوله تبارك وتعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: ٦١] الآية. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبُرُوجُ هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الْبُرُوجُ هَاهُنَا هِيَ قُصُورُ الْحَرَسِ. وَجَعَلَ الشُهُبَ حَرَسًا لَهَا مِنْ مَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ لِئَلَّا يَسْمَعُوا إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فمن تمرد وتقدم منهم لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ جَاءَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ فَأَتْلَفَهُ، فَرُبَّمَا يَكُونُ قَدْ أَلْقَى الْكَلِمَةَ الَّتِي سَمِعَهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ إِلَى الَّذِي هُوَ دُونَهُ فَيَأْخُذُهَا الْآخَرُ وَيَأْتِي بِهَا إِلَى وَلِيِّهِ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الصَّحِيحِ.
كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «١» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ» قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكم؟ قالوا: للذي قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ، ووصف سفيان بيده، وفرج بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الْأَرْضِ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْأَرْضِ فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ أَوِ الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَهُ الْأَرْضَ وَمَدَّهُ إِيَّاهَا وَتَوْسِيعَهَا وَبَسْطَهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، وَالْأَوْدِيَةِ وَالْأَرَاضِي وَالرِّمَالِ، وَمَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُتَنَاسِبَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أَيْ مَعْلُومٍ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
مُقَدَّرٌ بِقَدَرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُوزَنُ وَيُقَدَّرُ بِقَدَرٍ، وَقَالَ ابْنُ زيد: ما يزنه أَهْلُ الْأَسْوَاقِ. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ صَرَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ فِي صنوف الْأَسْبَابِ وَالْمَعَايِشِ وَهِيَ جَمْعُ مَعِيشَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ قال مجاهد: هي الدواب والأنعام.