
ولقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً﴾ [آل عمران: ٩١]- الآية - وهو كثير في القرآن، فلا يَيْأَس من مغفرة الله لعبدٍ مع الإيمان، ولا ترجى مغفرة لعبدٍ من الكفر.
وقوله: رحيم: أي: رحيم بعبادك إذا آمنوا قبل موتهم.
قوله: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي / زَرْعٍ﴾ - إلى قوله - ﴿يَوْمَ يَقُومُ الحساب﴾. معنى الآية: إنه دعاء من إبراهيم ﷺ بمكة، وذلك حين أسكن إٍماعيل، وأمه هاجر مكة.
قال ابن عباس: إن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم اسماعيل (وإن)

أول ما أحدث النساء جر الذيول، لمن أم اسماعيل، وذلك أنها لما فرت من سارة أرْخَتْ من ذيلها لتعفي أثرها، فجاء بها إبراهيم، ومعها إٍماعيل حتى انتهى بها إلى موضع البيت، فوضعها، ثم رجع. فأتبعته، فقالت: إلى (أي) شيء تكلنا؟ (إلى أي طعام تكلنا)، إلى أي شراب تكلنا؟.
فجعل إبراهيم لا يرد عليها عيناً، فقالت: (آلله) أمرك بهذا؟ قال نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء. أقبل على الوادي، فدعا، فقال: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ - الآية - قال: وكان كع هاجر شن، فيه ماء. فنفد الماء فعطشت، فانقطع اللبن. فعطش الصبي، فنظرت أي: الجبال أدنى من الأرض، فصعدت الصفا، فتسمعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً. فلم تسمع شيئاً، فانحدرت. فلما أتت إلى الوادي سعت وما تريد السعي،

كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي. فنظرت أي الجبال أدنى من الأرض، فصعدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتاً، أو ترى أنيساً فسمعت صوتاً كالإنسان الذي يكذب سمعه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك، فأغثني، فقد هلكت وهلك من معي. فجاء الملك بها، حتى انتهى (بها) إلى زمزم. فضرب بقدمه ففارت، فجعلت هاجر تفرغ من شنها. فقال رسول الله ﷺ: " رحم الله أم إسماعيل! لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً " وقال الملك لها: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنما (هي) عين لشرب ضيفان الله. وقال لها: إن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله (جل وعز) بيتاً، ذا موضعه، ثم ذهب، وبقيت هاجر، فأتت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا الطير على الجبل، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا. ثم أشرفوا فإذا هم
صفحة رقم 3827
بهاجر وابنها، فأتوها، فطلبوا أن ينزلوا عندها، فأذنت لهم، فسكنوا عندها. ثم أتتها المنية فماتت، رحمة الله عليها، فتزوج اسماعيل امرأة من جُرْهم، ثم كان من قصة إبراهيم في إتيانه إلى (بناء) البيت ما ذكر الله ( تعالى).
وقد تقدم منه ذكر (كثير) في البقرة. ومعنى: ﴿بَيْتِكَ المحرم﴾: أي: المحرم من استحلال حرمات الله (تعالى) فيه، والاستخفاف بحقه.
وقوله: ﴿فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ﴾: أي: اجعل قلوب بعض خلقك تنزع إليهم، فلذلك قلوب الناس إلى الآن تنزع إلى الحج، ولا تقدر على التخلف.

وقد قال ابن جبير: لو قال: فاجعل أفئدة الناس / تهوي إليهم، لحجت اليهود والنصارى، والمجوس، ولكنه قال: ﴿أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ فحج المسلمون.
قال مجاهد ( C) : لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس، والروم، ولكنه قال: من الناس.
والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، وسمي القلب فؤاداً لتفاؤده:
أي: لتوقده، والتفاؤد: التوقد، والمقتاد: موضع وقود النار.
قال عكرمة، وطاووس، وعطاء: قلوبهم تهوى إلى البيت حتى يأتونه: (أي) يحجون، وهو قول ابن عباس.

وعن ابن عباس أن معنى: ﴿تهوى إِلَيْهِمْ﴾: أي: تهوى السكنى عندهم.
وهذا المعنى إنما يكون على قراءة من قرأه بفتح الواو، وهي قراءة مروية عن مجاهد.
ولما دعا إبراهيم بأن يرزقهم من الثمرات نقل الله ( تعالى)، الطائف من فلسطين إلى موضعها الآن، ففيها من من كل الثمرات.
روي أن إبراهيم ﷺ لما دعا بهذا بعث الله جل ذكره، جبريل عليه السلام، فاقتلع الثمار من الشام من موضع يقال له الأردن، وهو نهر، ثم أقبل بالثمار حتى طاف بها حول البيت أسبوعاً، ثم أنزلها جبال تهامة وهي الطائف.

ولذلك سميت الطائف.
﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾: أي: يشكرون نعمك.
ثم حكى الله ( تعالى)، عنه أنه قال: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾: أي: تعلم ما نخفي في قلوبنا عند مسألتنا إياك وما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا.
﴿وَمَا نُعْلِنُ﴾ من دعائنا، فنجهر به. وغير ذلك من أحوالنا.
﴿وَمَا يخفى﴾ عليك يا رب (من) شيء في الأرض، ولا في السماء
ثم قال جل ذكره ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي﴾ - الآية -
قال ابن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد تسع عشرة ومائة (سنة)
(وقوله): ﴿رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة﴾: أي: مؤدياً ما ألزمتني من فرائضك،

﴿وَمِن ذُرِّيَتِي﴾: أي: واجعل أيضاً من ذريتي مقيم الصلاة.
ثم قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾: الدعاء هنا العبادة. والمعنى: " وتقبل عملي الذي أعمله لك، وعبادتي إياك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]
. فالمعنى: اعبدوني أستجب لكم، على ذلك قوله: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ [غافر: ٦٠].
﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾: استغفر إبراهيم لأبيه من أجل ﴿مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤]: أي: مات على كفره.
وقيل: عني بوالديه: آدم وحواء (عليهما السلام).