
الرزق على الله والآيات بيد الله والهداية من الله لمن آمن بالله
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
الإعراب:
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله: مَنْ أَنابَ أو خبر مبتدأ محذوف.
وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا معطوف على وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وفي الآية تقديم وتأخير، وما سبق ذلك اعتراض.
طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ طُوبى مبتدأ، وخبره لَهُمْ، والجملة خبر المبتدأ:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَحُسْنُ مَآبٍ: معطوف مرفوع على طُوبى. وقرئ:
وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب، على أنه منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، أي يا حسن مآب، ويجوز أن يكون طُوبى منصوبا بفعل مقدر، أي أعطاهم طوبى لهم، وأعطاهم حسن مآب، فهذا معطوف بالنصب على ما سبقه.
البلاغة:
يَبْسُطُ ويَقْدِرُ ويُضِلُّ ويَهْدِي بينهما طباق.
إِلَّا مَتاعٌ تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي ما الحياة الدنيا إلا مثل الذي يتمتع به الإنسان في منزله كالقصعة ونحوها، في حقارته وسرعة زواله.

المفردات اللغوية:
يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه وَيَقْدِرُ يضيقه أو يعطي بقدر الكفاية فقط وَفَرِحُوا أي أهل مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا وما نالوه فيها وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم، وشيء قليل يتمتع به ويذهب، والمعنى: أن الكفار بطروا بما نالوا من الدنيا، ولم يستخدموه فيما يوصلهم إلى نعيم الآخرة، واغتروا بما هو قليل النفع سريع الزوال.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكةهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ كعصا موسى ويده، وناقة صالح يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله، فلا تغني عنه الآيات شيئا لأنه عاند وأعرض عن الحق وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ يرشد إلى دينه من رجع عن العناد وأقبل إلى الحق. والمعنى: هذا جواب فيه تعجب من قولهم، كأنه قال لهم: ما أعظم عنادكم، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم، وإن أنزلت كل آية ويهدي إليه من أناب، أي من رجع عن العناد.
وَتَطْمَئِنُّ تسكن بِذِكْرِ اللَّهِ أي بتوحيده ووعده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قلوب المؤمنين، والمعنى أن قلوب المؤمنين تسكن وتستأنس بتوحيد الله وتذكر وعده، وتعتمد عليه وترجو منه، فتطمئن.
طُوبى مصدر من الطيب، أي لهم العيش الطيب والنعمة والخير والسرور، والحسنى والكرامة. وقيل: هي شجرة في الجنة، يسير الراكب في ظلها مائة عام. مَآبٍ مرجع ومنقلب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك، بيّن أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا لأنها دار امتحان، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم، فلا تعلق للرزق بالكفر والإيمان، فربما وسع على الكافر دون المؤمن استدراجا له، وضيق على المؤمن دون الكافر زيادة في أجره وثوابه.
ثم ذكر تعالى مقالة للمشركين، كثر في القرآن حكايتها وهي طلب آية

مادية حسية تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لإنكار هم أن القرآن آية دالة على النبوة، فرد الله عليهم أن اقتراح الآيات على الرسل جهل.
ثم ذكر سبحانه حال المؤمنين المتقين وثوابهم عند الله تعالى. والتحدث عن المشركين والمؤمنين هنا مناسب لما ذكر سابقا من بيان عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك.
التفسير والبيان:
لما ذكر الله تعالى أن للمشركين سوء الدار، ناسب ذكر حكم الرزق في الدنيا، وأنه لا تعلق له بالإيمان والكفر، فقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ..
أي أن الله تعالى هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل، بصرف النظر عن كون الإنسان مؤمنا أو كافرا، فقد يضيق الله الرزق على المؤمن ابتلاء واختبارا، وزيادة في أجره، وقد يوسع الله الرزق على الكافر استدراجا له وحرمانا منه في الآخرة، عدالة، فليست سعة الرزق للكافر دليلا على الكرامة والرضا، وليس التقتير على المؤمن دليلا على الإهانة والسخط. كما قال تعالى في شأن رزق الكافر: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٦] وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف ٧/ ١٨٢].
ثم ذكر الله تعالى حال المشركين في حال الغنى فقال: وَفَرِحُوا.. أي وفرح مشركو مكة بالدنيا فرح بطر، ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله. لكن ما نعيم الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله

صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة.
وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».
ولما أوضح تعالى أن المشركين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة على مشاعرهم وقلوبهم، ذكر ما ترتب على الغرور والتأثر بالمادة، فطلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية واحدة مادية تدل على صدق نبوته، لعدم إيمانهم بكون القرآن معجزة مصدقة، وبرهانا قاطعا على ذلك لأنهم قوم ماديون، لا مجال لمخاطبة العقل لديهم، والقائل: عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، فقال تعالى حاكيا اقتراحهم:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا...
أي ويطلب أهل مكة المشركون قائلين: هلا أنزل على محمد آية أو معجزة قاهرة ظاهرة مادية مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، كقولهم:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٥].
والله قادر على إجابة ما سألوا، لكن
جاء في الحديث: «إن الله أوحى إلى رسوله، لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن يجري لهم ينبوعا، وأن يزيح الجبال من حول مكة، فيصير مكانها مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك، فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة».
ورد الله عليهم بأن إنزال الآيات لا يؤثر في هداية ولا ضلال، بل الأمر كله بيد الله: قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ.. أي ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، فلا فائدة لكم في نزول الآيات، إن لم يرد الله هدايتكم، فمن كان على

صفتكم من التصميم والعناد في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائكم، وإن أنزلت كل آية، فإن الضلال والهداية بيد الله، والله يضل من يشاء، أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات، وحرمكم الاستدلال بها، يضلكم عند نزول غيرها، ويهدي إليه من أناب، أي رجع عن العناد وأقبل على الحق أو الإسلام أو الله عز وجل، فهاء إِلَيْهِ عائد إلى واحد من المذكورات على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه.
وللآية نظائر كثيرة منها: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام ٦/ ١١١] وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
ثم ذكر الله تعالى من يستحقون الهداية: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يهدي الله الذين صدقوا بالله ورسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه، ألا بتذكر الله، وتأمل آياته، ومعرفة كمال قدرته عن بصيرة، تطمئن قلوب المؤمنين، ويذهب القلق والاضطراب عنهم، بما وقر في تلك القلوب من نور الإيمان، كما قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٢٣] والمؤمن إذا تذكر عقاب الله، خاف، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال ٨/ ٢] وإذا تذكر المؤمن وعده تعالى بالثواب والرحمة، اطمأن قلبه وهدأت نفسه: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ٢].
ثم أبان الله تعالى جزاء المؤمنين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات العيش الطيب والنعمة والخير وحسن الثواب، وحسن المرجع.

والطوبى في رأي ابن عباس: الجنة، وروي عنه أنها شجرة في الجنة، ورجح القرطبي أنها شجرة في الجنة، فقال: والصحيح أنها شجرة «١»
للحديث المرفوع عن عتبة بن عبد السّلمي وهو صحيح على ما ذكره السهيلي: «نعم شجرة تدعى طوبى».
وللحديث المرفوع أيضا عن أبي سعيد الخدري فيما رواه الإمام أحمد: «طوبى: شجرة في الجنة، مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها»
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها»
ولا حرج على فضل الله ولا على قدرته، ففي الجنة كما ثبت في الحديث الذي أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الآتي:
١- الله تعالى مصدر الرزق، يوسع فيه على من يشاء، ويقتره على من يشاء، على وفق حكمته وعدله.
٢- الكفار وكل أصحاب النزعات المادية يفرحون في الدنيا، ولا يعرفون غيرها، ويجهلون ما عند الله من أفضال ونعم وخيرات كثيرة.
٣- ليست الدنيا في جانب الآخرة إلا متاع من الأمتعة، وشيء قليل سريع الزوال.
٤- اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تغني عن كل آية، هي القرآن، تدل على الصدق، وصحة النبوة والوحي، وكونه كلام الله.