اللغَة: ﴿عَمَدٍ﴾ العَمَد: الدعائم وهو اسم جمع وقيل: جمع عمود ﴿صِنْوَانٌ﴾ جمع صِنْو وهو الغصنُ الخارج عن أصل الشجرة وأصله المِثْلُ ومنه قيل للعمّ صِنْوٌ لمماثلته للأب، فإذا كان للشجرة
صفحة رقم 67
عدة فروع فهي صنوان ﴿الأغلال﴾ جمع غل وهو طوقٌ تُشدّ به اليد إلى العُنُق ﴿المثلات﴾ جمعَ مَثُلَة وهي العقوبة وسميت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة ﴿تَغِيضُ﴾ غاض الماءُ نقص أو غار ﴿وَسَارِبٌ﴾ الساربُ: الذاهب في سَرْبه أي طريقه بوضَح لنهار لا يستخفي عن الأنظار ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾ ملائكة يعقب بعضهم بعضاً أي يأتي بعضهم عقب بعض ﴿شَدِيدُ المحال﴾ القوة والإِهلاك والنّقمة.
التفسِير: ﴿المر﴾ إشارة إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس معناه: أنا الله أعلم وأرى ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ أي هذه آيات القرآن المعجز، الذي فاق كل كتاب ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق﴾ أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس بالباطل، ولا يحتمل الشك والتردّد ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس ﴿الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ أي خلقها مرتفعة البناء، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم، وذلك دليل وجود الخلق المبدع الحكيم ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ ولا تعطيل ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ أي يصرِّف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة وغير ذلك ﴿يُفَصِّلُ الآيات﴾ أي يبيّنها ويوضّحها ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أي لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه، لأن من قدر على ذسلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته ﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة، وهذا لا ينافي كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق ليستقر عليها الإِنسان والحيوان، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش عليها قال في التسهيل: ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير، لأن كل قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدتَها، وإنما التكوير لجملة الأرض ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا بأهلها كقوله ﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] ﴿وَأَنْهَاراً﴾ أي وجعل فيها الأنهار الجاريات {
وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي جعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق سنته الحكيمة وقال أبو السعود: أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين، إمّا في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو والحامض، أو في القَدْر كالصغير والكبير، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه ذلك ﴿يُغْشِي اليل النهار﴾ أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد ما كان مضيئاً ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي إنَّ في عجائب صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر، وخُصَّ «المتفكرون» بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يُدرك إلا بالتفكر ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ أي في الأرض بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض قال ابن عباس: أرضٌ طيبة، وأرضٌ سَبْخة تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت ﴿وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ أي بساتين كثيرة من أشجار العنب ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة ﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل﴾ أي الكل يسقى بماء واحدٍ، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم قال الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيضُ والاسود، بعضُها حلوٌ، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبَّر، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً هل سنبعث من جديد؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض، والأشجار والثمار، والبحار والأنهار قادرٌ على إعادتهم بعد موتهم ﴿أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ أي هؤلاء الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله ﴿وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ أي يُغلُّون بالسلاسل في أعنقاهم يوم القيامة ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ﴾ أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً لا يموتون فيها ولا يُخْرجون ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة﴾ أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات﴾ أي موقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون ولا يتَّعظون؟ ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ أي شديد العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب
صفحة رقم 69
ومن ذنوبه.
قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!! قال في البحر: لم يعتدّوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آيات أخرى ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد ﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم ناقص؟ حسنٌ أم قبيح ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرحام﴾ أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ أي وما تزداد على الأشهر التسعة قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدد لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء ﴿الكبير المتعال﴾ أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزَّه عن المشابهة والمماثلة ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار﴾ أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾ أي لهذا الإِنسان ملائكة موكَلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي من أمام الإِنسان ومن ورائه ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر «أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا﴾ أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم ﴿فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق﴾ هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال
السحاب ﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق وطعماً في الغيث، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ أي وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير ﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾ أي يسبّح الرعد له تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه، وتسبيحُ الرعد حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا بما هو حقٌّ كما قال
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾ أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله﴾ أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي قدرته على البعث ﴿وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾ أي وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحق﴾ أي لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله ﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾ أي لا يستجيبون لهم دعاءً، ولا يسمعون لهم نداءً ﴿إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فمه، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع قال أبو السعود: شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه وليس الماء ببالغ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه ﴿وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلتهم إلا في ضياع وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض ﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ أي طائعين وكارهين قال الحسن: المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار ﴿وَظِلالُهُم بالغدو والآصال﴾ أي وتسجد ظلالُهم أيضاً لله في أول النار وأواخره، والغرضُ الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء، ودان له كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام لأمره تعالى ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما؟ والسؤال للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله ﴿قُلِ الله﴾ أي قل لهم تقريعاً وتبكيتاً: اللهُ خالقُهما ﴿قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾ أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، ولا على دفع الضُرّ عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ هذا تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير، وكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر
ضياء الحق، والمشرك الذي عمي عن رؤية ذلك الضياء، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، والفارق بين الإيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام ﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ﴾ هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله مِن خلق آلهتهم؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله، وذلك أسخف وأحط ما تصل إليه عقول المشركين، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح ﴿قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار﴾ أي الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية، الغالب لكل شيء، وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره.
البَلاغَة: في الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
١ - الإِشارة بالبعيد عن القريب في ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ تنزيلاً لها منزلة البعيد للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها و (أل) في الكتاب للتفخيم أي الكتاب العجيب الكامل في إعجازه وبيانه.
٢ - الاستعارة التبعية في ﴿يُغْشِي اليل النهار﴾ شبّه إزالة نور النهار بواسطة ظلمة الليل بالغطاء الكثيف واستعار لفظ ﴿يُغْشِي﴾ المشير إلى تغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية الحسية للأمور المعنوية.
٣ - الطباق في ﴿تَغِيضُ.... تَزْدَادُ﴾ وفي ﴿الغيب والشهادة﴾ وفي ﴿أَسَرَّ.... جَهَرَ﴾ وفي ﴿مُسْتَخْفٍ.... وَسَارِبٌ﴾ لأن السارب الظاهر وفي ﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ وفي ﴿طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ وكلها من المحسنات البديعية اللفظية.
٤ - الإِيجاز بالحذف في ﴿قُلِ الله﴾ أي اللهُ خالقُ السماوات والأرض.
٥ - التشبيه التمثيلي في ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ﴾ شبَّه عدم استجابة الأصنام للداعين لها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بُعْد فوجه الشبه منتزع من متعدد.
٦ - الاستعارة في ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾ استعار لفظ الظلمات والنور للفكر والإِيمان وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل والبصير للمؤمن العاقل.
تنبيه: سميت الملائكة معقبات لأنهم يتعاقبون على أعمال العباد بالليل والنهار كما في البخاري «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر... » الحديث.
فَائِدَة: روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سمع صوت الرعد يقول:» سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير «وكان أبو هريرة يقول من قالها فأصابته صاعقةٌ فعليَّ ديته.