
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) ﴾.
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي: أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ، ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ أَيْ: خَطَئِكَ الْقَدِيمِ مِنْ ذِكْرِ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ، وَالضَّلَالُ هُوَ الذَّهَابُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوسُفَ قَدْ مَاتَ وَيَرَوْنَ يَعْقُوبَ قَدْ لَهِجَ بِذِكْرِهِ.
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ وَهُوَ الْمُبَشِّرُ عَنْ يُوسُفَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: جَاءَ الْبَشِيرُ بَيْنَ يَدَيِ الْعِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ يَهُوذَا.
قَالَ [السُّدِّيُّ: قَالَ يَهُوذَا] (١) أَنَا ذَهَبْتُ بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ إِلَى يَعْقُوبَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ بِالْقَمِيصِ فَأُخْبِرُهُ أَنَّ وَلَدَهُ حَيٌّ فَأُفْرِحُهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ (٢).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُ يَهُوذَا وَخَرَجَ حَافِيًا حَاسِرًا يَعْدُو وَمَعَهُ سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ لَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهَا حَتَّى أَتَى أَبَاهُ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا.
وَقِيلَ: الْبَشِيرُ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ.
﴿أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ﴾ يَعْنِي: أَلْقَى الْبَشِيرُ قَمِيصَ يُوسُفَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ، ﴿فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ فَعَادَ بَصِيرًا بَعْدَمَا كَانَ عَمِيَ وَعَادَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَشَبَابُهُ بَعْدَ الْهَرَمِ وَسُرُورُهُ بَعْدَ الْحُزْنِ.
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ وَأَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلْبَشِيرِ: كَيْفَ تَرَكْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَلِكُ مِصْرَ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: مَا أَصْنَعُ بِالْمُلْكِ عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ (٣).
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ مُذْنِبِينَ.
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَخَّرَ الدُّعَاءَ إِلَى السَّحَرِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي
(٢) انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٢٥٩.
(٣) قال ابن الجوزي في زاد المسير: (٤ / ٢٨٦) : رواه يحيى بن يمان عن سفيان. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٥٨٣) لابن أبي حاتم عن الحسن موقوفا عليه.

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ" (١) فَلَمَّا انْتَهَى يَعْقُوبُ إِلَى الْمَوْعِدِ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ بِالسَّحَرِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا رَفْعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَزَعِي عَلَى يُوسُفَ وَقِلَّةَ صَبْرِي عَنْهُ، وَاغْفِرْ لِأَوْلَادِي مَا أَتَوْا إِلَى أَخِيهِمْ يُوسُفَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَلَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ [رَبِّي يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ (٢). قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلَّ] (٣) لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ طَاوُسٌ: أَخَّرَ الدُّعَاءَ إِلَى السَّحَرِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ فَوَافَقَ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ (٤). وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قَالَ: أَسْأَلُ يُوسُفَ إِنْ عَفَا عَنْكُمْ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي (٥) ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
رُوِيَ أَنَّ يوسف كان ١٨٧/أقَدْ بَعَثَ مَعَ الْبَشِيرِ إِلَى يَعْقُوبَ مِائَتَيْ رَاحِلَةٍ وَجَهَازًا كَثِيرًا لِيَأْتُوا بِيَعْقُوبَ وَأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَتَهَيَّأَ يَعْقُوبُ لِلْخُرُوجِ إِلَى مِصْرَ، فَخَرَجُوا وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانُوا ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ (٦)، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مِصْرَ كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ الَّذِي فَوْقَهُ، فَخَرَجَ يُوسُفُ وَالْمَلِكُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْجُنُودِ وَرَكِبَ أَهْلُ مِصْرَ مَعَهُمَا يَتَلَقَّوْنَ يَعْقُوبَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ يَمْشِي وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَهُوذَا فَنَظَرَ إِلَى الْخَيْلِ وَالنَّاسِ فَقَالَ: يَا يَهُوذَا هَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ، قَالَ: لَا هَذَا ابْنُكُ، فَلَمَّا دَنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ ذَهَبَ يُوسُفُ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَا حَتَّى يَبْدَأَ يَعْقُوبُ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ الْأَحْزَانِ (٧).
وَرُوِيَ أَنَّهُمَا نَزَلَا وَتَعَانَقَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَمَّا الْتَقَى يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَانَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَبَكَيَا، فَقَالَ
(٢) أخرج ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: يقول حتى تأتي ليلة الجمعة. وهو قول أخي يعقوب لبنيه، التفسير: ١٦ / ٢٦٢، وانظر تخريجه في تعليق محمود شاكر عليه. قال ابن كثير في "البداية والنهاية": (١ / ٢١٧) :"وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر، والأشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما".
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٤) انظر: تفسير القرطبي: ٩ / ٢٦٣.
(٥) المرجع السابق نفسه.
(٦) في "ب": ثلاثة وسبعين.
(٧) غالب هذه الأخبار متلقاة عن أهل الكتاب. انظر: البداية والنهاية لابن كثير: ١ / ٢١٧-٢١٨.