آيات من القرآن الكريم

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الْمَقَامِ، بَلْ هُوَ بَحْثٌ عَنْ سِرِّ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى بِأَقْصَى الْجُهْدِ وَالْقُدْرَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ السَّعْيِ الْبَلِيغِ وَالْجِدِّ الْجَهِيدِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَسَابِقِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِلْزَامِ وَالْمَنْعِ مِنَ النَّقِيضِ وَسُمِّيَتْ حَكَمَةُ الدَّابَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الدَّابَّةَ عَنِ الْحَرَكَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْحُكْمُ إِنَّمَا سُمِّيَ حُكْمًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْحُكْمَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَيْسَ إِلَّا للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ، إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ قَالَ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه ثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَوَكُّلَ إِلَّا عَلَى اللَّه وَأَنَّ الرَّغْبَةَ لَيْسَتْ إِلَّا فِي رُجْحَانِ وُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى عَدَمِهَا وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ الْمَانِعُ عَنِ النَّقِيضِ هُوَ الْحُكْمُ، وَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ حُصُولَ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعَ كُلِّ الْآفَاتِ مِنَ اللَّه، وَيُوجِبُ أَنَّهُ لَا تَوَكُّلَ إِلَّا عَلَى اللَّه فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ عَالٍ وَنَحْنُ قَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَا هُوَ الْبُرْهَانُ الْحَقُّ فِيهِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فِيهِ فَلْيُطَالِعْ ذلك الكتاب.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٨]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف: ٦٧] صَدَّقَهُ اللَّه فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّفَرُّقُ يُغْنِي مِنَ اللَّه مِنْ شَيْءٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: ذَلِكَ التَّفَرُّقُ مَا كَانَ يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّه وَلَا أَمْرًا قَدَّرَهُ اللَّه. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَيْنَ لَوْ قُدِّرَ أَنْ تُصِيبَهُمْ لَأَصَابَتْهُمْ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ كَمَا تُصِيبُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
لَوْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّ الْعَيْنَ تُهْلِكُهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لَكَانَ تَفَرُّقُهُمْ كَاجْتِمَاعِهِمْ، وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مُتَقَارِبَةٌ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَدْفَعُ الْقَدَرَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مِنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ النَّصْبَ بِالْمَفْعُولِيَّةِ وَالرَّفْعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَا رَأَيْتُ من أحد، فكذا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي مِنْ قَضَاءِ اللَّه شَيْئًا، أَيْ ذَلِكَ التَّفَرُّقُ مَا كَانَ يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ تَحْتِ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَتَقْدِيرُهُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ فَكَذَا هاهنا التَّقْدِيرُ: مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّه شَيْءٌ مَعَ قَضَائِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، يَعْنِي أَنَّ الدُّخُولَ عَلَى صِفَةِ التَّفَرُّقِ قَضَاءُ حَاجَةٍ فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ، وَثَانِيهَا: خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَسَدِ أَهْلِ مِصْرَ،

صفحة رقم 484
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية