
دليل على جواز الكفالة (الحمالة) بالعين والوثيقة بالنّفس (كفالة النّفس) وللعلماء فيها رأيان: رأي الجمهور: هي جائزة إذا كان المكفول به مالا. ولا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص في رأي المذاهب الأربعة، وأجاز الشافعية الكفالة بالقصاص، والقذف، والتّعزير، لما فيها من حقّ العبد. وقال بعضهم: لا تجوز الكفالة بالنّفس، لتعذّر إحضار المكفول بنفسه، ولقوله تعالى على لسان العزيز في قصّة يوسف عليه السّلام: قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.
الفصل الثاني عشر من قصة يوسف وصية يعقوب لأولاده بالدخول إلى مصر من أبواب متفرقة
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
الإعراب:
مِنْ شَيْءٍ إما مفعول وإما فاعل، والتقدير على المفعولية: ما كان يغني من قضاء الله شيئا، وعلى الفاعلية: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
البلاغة:
لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فيه طباق السلب، وفيه إطناب:
وهو زيادة اللفظ على المعنى، للتأكيد والتقرير وتمكين المعنى في النفس.

المفردات اللغوية
لا تَدْخُلُوا مصر. وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالكرامة والحظوة عند العزيز، فخاف عليهم أن يدخلوا جماعة واحدة فتصيبهم العين.
ولعله لم يوصهم بذلك في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين حينئذ. وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما أدفع عنكم بقولي ذلك شيئا قدره الله عليكم وقضاه، وإنما ذلك شفقة، فإن الحذر لا يمنع القدر. ومن: صلة زائدة لتمكين النفي.
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم إلا لله وحده، يصيبكم لا محالة إن قضي عليكم سوء، ولا ينفعكم ذلك. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ به وثقت. فَلْيَتَوَكَّلِ الفاء لإفادة التسبب، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم. والواو في قوله وَعَلَيْهِ للعطف، وقدم عَلَيْهِ في عطف الجملة على الجملة للاختصاص.
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة في البلد. ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ما كان يفيد رأي يعقوب واتباعهم له مما قضاه الله عليهم شيئا، فحدث وضع الصواع في رحل بنيامين، وتضاعفت المصيبة على يعقوب.
إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها استثناء منقطع، أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم وحرصه على ألا يعانوا (تصيبهم العين) وقضاها أي أظهرها، ووصى بها. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ
إن يعقوب عليم بحقائق الأمور وأن العين لا توقع ضررا إلا بإذن الله، لتعليمنا إياه بالوحي وإقامة الحجج، ولذلك قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ولم يغتر بتدبيره.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَعْلَمُونَ سر القدر، وأنه لا يغني عنه الحذر، وأن الحكم لله. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى موافقة يعقوب على إرسال بنيامين مع إخوته إلى مصر، ذكر هنا وصيته لأولاده لما عزموا على الخروج إلى مصر، وهي الدخول من أبواب متفرقة، ليروا مدى الاهتمام والاستقبال لكل واحد منهم حين رؤية بنيامين شقيق يوسف، أو لئلا يحسدهم الحساد، وتصيبهم العين جميعا.

التفسير والبيان:
أمر يعقوب بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، لأنهم كانوا من أهل جمال وكمال، وذلك في رأي جمهور المفسرين لئلا تصيبهم العين، فإنه خاف من العين عليهم، والعين حق أي أنها سبب حق في الظاهر قد تؤدي إلى الضرر، ولكن بإذن الله وإرادته، بدليل قوله بعدئذ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. أو ليروا من العزيز فرق الاستقبال بينهم وبين أخيهم بنيامين.
وَما أُغْنِي.. أي وما أدفع عنكم بوصيتي وتدبيري من قضاء الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع، ولكنا مأمورون باتخاذ وسائل الحيطة والحذر:
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء ٤/ ١٠٢] أخذا بالأسباب العادية الظاهرية التي لا تؤثر في الواقع شيئا إلا بإذن الله، واستعانة بالله، وفرارا منه إليه، وليس دفعا للقدر، وتحديا للقضاء، فلا يملك الإنسان من أمره شيئا، فما أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة.
وما إنفاذ الأحكام وتدبير الأمور إلا لله وحده، عليه وحده توكلت، وبه وثقت، وإليه فوضت أمري، دون حولي وقوتي، وعليه تعالى وحده فليتوكل المتوكلون، لا على أنفسهم ولا على أمثالهم من البشر.
ولما دخلوا أي أولاد يعقوب مصر، التي كان لها أربعة أبواب، من حيث أمرهم أبوهم، أي من أبواب متفرقة، ما كان رأي يعقوب ودخولهم على هذا النحو متفرقين يفيدهم شيئا قط، حيث أصابهم ما ساءهم، مع تفرقهم، من نسبة السرقة إليهم، وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم فداء لوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم.

ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، أي مجرد شيء في نفسه أظهره، وهي شفقته عليهم، وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به.
وإنه أي يعقوب لذو علم بأن الحذر لا يمنع القدر، لتعليمنا إياه بالوحي.
وقال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه، وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السّلام.
ولكن أكثر الناس وهم المشركون أو الكفار لا يعلمون ذلك أي مثل ما علم يعقوب، أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، فإنهم لا يعلمون كيف أرشد الله أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة. ومن تلك العلوم الأخذ بالأسباب الظاهرة وتفويض الأمر لله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- قول يعقوب لأولاده: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ دليل في رأي جمهور المفسرين على التحرز من العين، والعين في الظاهر حق، ومرد النتيجة في الحقيقة إلى الله وحده، وتكون العين مجرد سبب،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد بسند صحيح «العين حق»
أي شيء ذو أثر موجود عند الناس، وذكر النسفي: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر»
وكان صلّى الله عليه وسلم يتعوّذ فيقول: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة»
وكان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذ كما بكلمات الله التّامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة»
ويقول: وهكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله عليهم.
وروى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أول النهار، فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار، فرأيته معافى، فقال: إن

جبريل عليه السّلام أتاني فقال فيما أخرجه أحمد عن عائشة وعبادة. «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن كل عين وحاسد، الله يشفيك».
وعلى كل مسلم أعجبه شيء أن يبرّك، فإنه إذا دعا بالبركة، صرف المحذور لا محالة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعامر: «ألا برّكت»
فدل على أن العين لا تضر إذا برّك العائن. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه.
ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار.
والعائن إذا أصاب بعينه ولم يبرّك، يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه، لأن الأمر على الوجوب، وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر بالرقية.
ومن عرف بالإصابة بالعين، منع من مداخلة الناس، دفعا لضرره.
٢- دل قوله تعالى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ على أن الحذر لا ينفع مع القدر، فدخول أولاد يعقوب مصر من أبواب متفرقة ما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء. قال ابن عباس: ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمرا قدره الله.
٣- الحكم لله، أي الأمر والقضاء لله وحده، وعلى المؤمن الاتكال على الله، أي الاعتماد عليه والثقة به وحده، لأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى.
٤- إن وصية يعقوب لأولاده بالدخول من أبواب متفرقة مجرد خاطر خطر بقلبه،. وتحرز ظاهري، مع أنه عليم من طريق الوحي بأمر دينه، وأكثر الناس لا يعلمون ما يعلم يعقوب من أمر دينه. وقيل: المقصود بالعلم هنا العمل، أي لذو عمل بعلمه، فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه.