المنَاسَبَة: لما أراد الله الفرج عن يوسف وإخراجه من السجن، رأى ملك مصر رؤيا عجيبة أفزعته، فجمع السحرةَ والكهنة والمنجمين وأخبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله جميعاً ليكون ذلك سبباً في خلاص يوسف من السجن.
اللغَة: ﴿عِجَافٌ﴾ هزيلة ضعيفة جمع أعجف والأنثى عجفاء ﴿تَعْبُرُونَ﴾ التعبير: معرفة تفسير الرؤيا المنامية ﴿أَضْغَاثُ﴾ جمع ضِغث وهو الحزمة من الحشيش اختلط فيها اليابس بالرطب ﴿أَحْلاَمٍ﴾ جمع حُلم وهو ما يراه النائم ومعناه أخلاط منامات اختلط فيها الحق بالباطل ﴿وادكر﴾ تذكّر بعد النسيان ﴿دَأَباً﴾ الدَّأب: الاستمرار على الشيء يقال: دأب على عمله فهو دائب أي استمر عليه ﴿تُحْصِنُونَ﴾ تحرزون وتدخرون ﴿حَصْحَصَ﴾ ظهر وبان ﴿مَكِينٌ﴾ ذو مكانة رفيعة ﴿رِحَالِهِمْ﴾ جمع رحل وهو ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره ﴿نَمِيرُ﴾ نأتي لهم بالميرة وهي الطعام ﴿يُحَاطَ بِكُمْ﴾ تهلكوا جميعاً.
التفِسير: ﴿وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ أي قال ملك مصر إني رأيت في منامي سبع بقرات سمانٍ خرجت من نهرٍ يابسٍ، وفي أثرها سبع بقراتٍ هزيلة في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانّ ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ هذا من تتمة الرؤيا أي ورأيتُ أيضاً سبع سنبلاتٍ خضر قد انعقد حبُّها وسبعاً آُخر يابسات قد استحصدت، فالتوتْ اليابسات على الخضر فأكلنهنَّ ﴿ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ﴾ أي يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي أخبروني عن تفسير هذه الرؤيا ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ أي إن كنتم تجيدون تعبيرها وتعرفون مغزاها ﴿قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ أي أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها قال الضحاك: أحلامٌ كاذبة ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ﴾ أي ولسنا نعرف تأويل مثل هذه الأحلام الكاذبة ﴿وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي وقال نجا من السجن وهو الساقي وتذكّر ما سبق له مع يوسف بعد مدة طويلة ﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ أي أنا أخبركم عن تفسير هذه الرؤيا ممن عنده علم بتأويل المنامات ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ أي فأرسلوني إليه لآتيكم بتأويلها، خاطب الملك بلفظ التعظيم قال ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة ولهذا قال فأرسلون ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ في الكلام محذوف دلَّ عليه السياق وتقديره: فأرسلوه فانطلق الساقي إلى السجن ودخل على يوسف وقال له: يا يوسف يا أيها الصِّديق وسمّاه صديقاً لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا التي رآها في السجن، والصدّيق مبالغةٌ من الصدق ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ أي أخبرنا عن
تأويل هذه الرؤيا العجيبة ﴿لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لأرجع إلى الملك وأصحابه وأخبرهم بها ليعلموا فضلك وعلمك ويخلصوك من محنتك قال الإِمام الفخر: وإنما قال ﴿لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس﴾ لأنه رأى عجز سائر المعبّرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لعلّي ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ أي تزرعون سبع سنين دائبين بجدٍ وعزيمة ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾ أي فما حصدتم من الزرع فاتركوه في سنبله لئلا يسوّس ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ أي إلا ما أردتم أكله فادرسوه واتركوا الباقي في سنبله ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ أي ثمَّ يأتي بعد سنيّ الرخاء سبع سنين مجدبات ذات شدة وقحط على الناس ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ أي تأكلون فيها مما ادخرتم أيام الرخاء ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ أي إلا القليل الذي تدخرونه وتخبئونه للزراعة ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي ثم يأتي بعد سنيّ القحط والجدب العصيبة عام رخاء، فيه يُمطر الناس ويُغاثون، وفيه يعصرون الأعناب وغيرها لكثرة خصبه، قال الزمخشري: تأول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشّرهم بأن العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً، كثير الخير، غزير النعم، وذلك من جهة الوحي ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ﴾ أي ولما رجع الساقي إلى الملك وعرض عليه ما عبَّر به يوسف رؤياه استحسن ذلك فقال: أحضروه لي لأسمع منه تفسيرها بنفسي ولأبصره ﴿فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول﴾ أي فلما جاء رسول الملك يوسف ﴿قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ﴾ أي قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك الملك ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ أي سلْه عن قصة النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن هل يعلم أمرهنَّ؟ وهل يدري لماذا حُبست ودخلت السجن؟ وأني ظُلمت بسببهنَّ؟ أبى عليه السلام أن يخرج من السجن حتى تُبرأ ساحته من تلك التهمة الشنيعة، وأن يعلم الناس جميعاً أنه حُبس بلا جرم ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ أي إنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور وبما دبّرن من كيدٍ لي ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ﴾ جمع الملك النسوة ودعا امرأة العزيز معهن فسألهن عن أمر يوسف وقال لهن: ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف غلى مقارفة الفاحشة؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء﴾ أي معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تنزيهٌ له وتعجب من نزاهته وعفته ﴿قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق﴾ أي ظهر وانكشف الحق وبان بعد خفائه ﴿أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ أي أنا التي أغريتُه ودعوتُه
صفحة رقم 51إلى نفسي وهو بريءٌ من الخيانة وصادقٌ في قوله «هي راودتني عن نفسي» وهذا اعتراف صريحٌ ببراءة يوسف على رءوس الأشهاد ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ الأظهر أن هذا من كلام يوسف قاله لمّا وصله براءة النسوة له والمعنى ذلك الأمر الذي فعلتُه من ردّ الرسول حتى تظهر براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته في غيبته بل تعففت عنها ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين﴾ أي لا يوفق الخائن ولا يسدّد خطاه ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾ أي لا أزكي نفسي ولا أنزّهها، فإن النفس البشرية ميَّالة إلى الشهوات، قاله يوسف على وجه التواضع قال الزمخشري: أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها معجباً ومفتخراً ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي﴾ أي إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ بالعصمة ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أي ائتوني بيوسف اجعله من خاصتي وخلصائي، قال ذلك لمّا تحقق براءته وعرف عفته وشهامته وعلمه ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ أي فلما أتوا به وكلَّمه يوسف وشاهد الملك فضله، ووفور عقله، وحُسن كلامه قال إنك اليوم قريب المنزلة رفيع الرتبة، مؤتمنٌ على كل شيء ﴿قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض﴾ أي قال يوسف للملك اجعلني على خزائن أرضك ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ أي أمينٌ على ما استودعتني، عليمٌ بوجوه التصرف، وإنما طلب منه الولاية رغبةً في العدل، وإقامة الحق والإِحسان، وليس هو من باب التزكية للنفس، وإنما هو للإِشعار بحنكته ودرايته لاستلام وزارة الماليَّة ﴿وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض﴾ أي وهكذا مكنّا ليوسف في أرض مصر، وجعلنا له العزَّ والسلطان بعد الحبس والضيق ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ﴾ أي يتخذ منها منزلاً حيث يشاء ويتصرف في الممكلة كما يريد ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ﴾ أي نخص بإِنعامنا وفضلنا من نشاء من عبادنا ﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي لا نضيع أجر من أحسن عمله وأطاع ربه بل نضاعفه له ﴿وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ أي أجر الآخرة وثوابها خير للمؤمنين المتقين من أجر الدنيا، وفيه إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يُدَّخر لهؤلاء المحسنين أعظم وأجلُّ من هذا النعيم العاجل في الدنيا ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي دخلوا على يوسف فعرف أنهم إخوته ولكنهم لم يعرفوه لهيبة المُلْك، وبُعْد العهد، وتغير الملامح قال ابن عباس: كان بين إلقائه في الجب وبين دخولهم عليه اثنتان وعشرون سنة فلذا أنكروه، وكان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم بسبب القحط الذي عمَّ البلاد، فخرجوا إلى مصر ليشتروا من الطعام الذي ادخره يوسف، فلما دخلوا على يوسف قال كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ قالوا: جئنا للميرة، قال: لعلكم عيونٌ «جواسيس» علينا؟ قالوا: معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيُّ الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا وهلك في البرية - وكان أحبَّنا إليه - وبقي شقيقه فاحتبسه ليتسلّى به عنه وجئنا نحن العشرة، فأمر بإنزالهم وإكرامهم ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ أي
صفحة رقم 52هيأ لهم الطعام والميرة وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم ﴿قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ﴾ أي ائتوني بأخيكم بنيامين لأصدقكم ﴿أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل﴾ أي ألا ترون أني أتم الكيل من غير بخسٍ ﴿وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾ أي خير من يكرم الضيفان وخير المضيفين لهم، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ أي إن لم تأتوني بأخيكم فليس لكم عندي بعد اليوم ميرة، ولا تقربوا بلادي مرة ثانية، رغبهم ثم توعدهم قال في البحر: والظاهر أن كل ما فعله يوسف عليه السلام كان بوحيٍ من الله وإلا فمقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكنَّ الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته، ولتتفسَّر الرؤيا الأولى ﴿قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في طلبه منه، وإنّا لفاعلون ذلك ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾ أي قال يوسف لغلمانه الكيالين اجعلوا المال الذي استروا به الطعام في أوعيتهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ﴾ أي لكي يعرفوها إذا رجعوا إلى أهلهم وفتحوا أوعيتهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعلهم يرجعون إلينا إذا رأوها، فإنه علم أنَّ دينهم يحملهم على رد الثمن لأنهم مطهّرون عن أكل الحرام فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل﴾ أي فلما عادوا إلى أبيهم قالوا له - قبل أن يفتحوا متاعهم - يا أبانا لقد أُنذرنا بمنع الكيل في المستقبل إن لم نأت بأخينا بنيامين، فإنَّ ملك مصر ظنَّ أننا جواسيس وأخبرناه بقصتنا فطلب أخانا ليتحقق صدقنا ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ﴾ أي أرسل معنا أخانا بنيامين لنأخذ ما نستحقه من الحبوب التي تُكال لنا ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أي نحفظه من أن يناله مكروه ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ﴾ أي قال لهم يعقوب: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم بعد أن ضمنتم لي حفظه، ثمَّ خنتم العهد؟ فأًخاف أن تكيدوا له كما كدتم لأخيه؟ فأنا لا أثق بكم ولا بحفظكم، وإنما أثق بحفظ الله ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾ أي حفظ الله خيرٌ من حفظكم ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ أي هو أرحم من والديه وإخوته، فأرجوأن يمُنَّ عليَّ بحفظه ولا يجمع عليَّ مصيبتين ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ أي ولما فتحوا الأوعية التي وضعوا فيها الميرة وجدوا ثمن الطعام في متاعهم ﴿قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي﴾ أي ماذا نبغي؟ وأيَّ شيءٍ نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ ﴿هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ أي هذا ثمن الطعام قد ردّ إلينا من حيث لا ندري، فهل هناك مزيدٌ فوق هذا الإِحسان، أوفى لنا الكيل، وردَّ لنا الثمن!! أرادوا بذلك استنزال أبيهم عن رأيه ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أي نأتي بالميرة والطعام لأهلنا ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ أي نحفظه من المكاره، وكرروا حفظ الأخ مبالغةً في الحض على إرساله ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ أي ونزداد باستصحابنا له حمل بعير، روي أنه ما كان يعطي الواحد إلا كيل بعير من الطعام، فأعطاهم حمل عشرة جمال ومنعهم الحادي عشر حتى يحضر أخوهم ﴿ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أي سهلٌ على الملك إعطاؤه لسخائه ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ أي قال لهم أبوهم: لن أرسل معكم بنيامين إلى مصر حتى تعطوني عهداً مؤكداً وتحلفوا بالله لترُدنه عليَّ ﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾
صفحة رقم 53
أي إلا أن تُغلبوا فلا تقدّروا على تخليصه، ولا يبقى لكم طريق أو حيلة إلى ذلك قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلُّكم فيكون ذلك عذراً عندي ﴿فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ أي فلما حلفوا له وأعطوه العهد المؤكد ﴿قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أي الله شهيد رقيب على ذلك ﴿وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ أي لا تدخلوا مصر من بابٍ واحد قال المفسرون: خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمالٍ وهيبة، والعينُ حقٌ تُدخل الرجلَ القبرَ، والجملَ القِدر كما جاء في الحديث ﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئاً مما قضاه الله عليكم، فإن الحذَر لا يدفع القدر ﴿إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ﴾ أي ما الحكم إلا لله جلَّ وعلا وحده لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي عليه وحده اعتمدت وبه وثقت ﴿وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ أي وعليه فليعتمدْ أهل التوكل والإيمان، ولْيفوضوا أمورهم إليه ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾ أي دخلوا من الأبواب المتفرقة كما أوصاهم أبوهم ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي ما كان دخولهم متفريقن ليدفع عنهم من قضاء الله شيئاً ﴿إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ أي إلا خشية العين شفقةً منه على بنيه ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ أي وإن يعقوب لذو علمٍ واسع لتعليمنا إياه بطريق الوحي، وهذا ثناءٌ من الله تعالى عظيمٌ على يعقوب، لأنه علم بنور النبوة أن القدر لا يدفعه الحذر ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون ما خصَّ الله به أنبياءه وأصفياءه من العلوم التي تنفعهم في الدارين.
البَلاغَة: ١ - ﴿إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
٢ - ﴿سِمَانٍ... وعِجَافٌ﴾ بينهما طباقٌ وكذلك بين ﴿خُضْرٍ... ويَابِسَاتٍ﴾ طباقٌ.
٣ - ﴿أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ هذا من أَبلغ أَنواع الاستعارة وألطفها فإن الأضغاث هو المختلط من الحشيش المضموم بعضه إِلى بعض، فشبه اختلاط الأحلام وما فيها من المحبوب والمكروه، والخير والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرة.
٤ - ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ هذا من براعة الاستهلال فقد قدَّم الثناء قبل السؤال طمعاً في إجابة مطلبه.
٥ - ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ فيه مجاز عقلي لأن السنين لا تأكل وإنما يأكل الناس ما ادَّخروه فيها، فهو من باب الإِسناد إلى الزمان كقول الفصحاء: نهارُ الزاهدِ صائم وليلُه قائم.
٦ - ﴿لأَمَّارَةٌ بالسواء﴾ لم يقل آمرة مبالغة في وصف النفس بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي لأن «فعّال» من أبنية المبالغة.
٧ - ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ بين عرف وأنكر طباقٌ.
٨ - ﴿لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾ فيه إطناب وهو زيادة اللفظ على المعنى، وفائدتُه تمكين المعنى من النفس، وفيه أيضاً من المحسنات البديعية ما يسمى «طباق السلب».
فَائِدَة: أثنى رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على يوسف الصدِّيق في كرمه وصبره وحلمه فقال: «لو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبتُ الداعي» وكفى بهذا برهاناً على عفة يوسف ونزاهته عليه السلام.
لطيفَة: ذكر بعض العلماء أن يوسف عليه السلام ما زال النساء يملن إِليه ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة فشغلت هيبتُه كل من رآه عن حسنه.
صفحة رقم 55