
وادَّكَرَ أصله ادتكر- افتعل- من الذكر، قلبت التاء دالا وأدغم الأول في الثاني، ثم بدلت دالا غير منقوطة لقوة الدال وجلدها، وبعض العرب يقول: اذكر وقرىء «فهل من مذكر» [القمر: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١] بالنقط ومِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١] على اللغتين وقرأ جمهور الناس: «بعد أمة» وهي المدة من الدهر، وقرأ ابن عباس وجماعة «بعد أمة» وهو النسيان، وقرأ مجاهد وشبل بن عزرة «بعد أمه» بسكون الميم وهو مصدر من أمه إذا نسي، وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمة» بكسر الهمزة، والإمة: النعمة والمعنى: بعد نعمة أنعمها الله على يوسف في تقريب إطلاقه وعزته.
وبقوله: ادَّكَرَ يقوي قول من يقول: إن الضمير في أَنْسانِيهُ [الكهف: ٦٣] عائد على الساقي، والأمر محتمل.
وقرأ الجمهور: «أنا أنبئكم» وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «أنا آتيكم»، وكذلك في مصحف أبي بن كعب.
وقوله: فَأَرْسِلُونِ استئذان في المضي، فقيل: كان السجن في غير مدينة الملك- قاله ابن عباس- وقيل: كان فيها.
قال القاضي أبو محمد: ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال.
قوله عز وجل:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
المعنى: فجاء الرسول- وهو الساقي- إلى يوسف فقال له: يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ- وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير شيء- وهو بناء مبالغة من صدق، وسمي أبو بكر صديقا من صدق غيره، إذ مع كل تصديق صدق، فالمصدق بالحقائق صادق أيضا، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩].
ثم قال: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ أي فيمن رأى في المنام سبع بقرات، وحكى النقاش حديثا روى فيه: أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه، وأخرجه من، السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سببا لفرج يوسف. ويروى أن الملك كان يرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يخرجن من نهر، وتخرج وراءها سَبْعٌ عِجافٌ، فتأكل العجاف السمان، فكان يعجب كيف

غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف، وكان يرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وقد التفت بها سبع يابسات، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضا لذلك.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أي تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس. وقيل:
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سببا لتخلصك.
وقوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ الآية، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول:
أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ.
والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ.
والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا ألا يكون غيبا، بل علم العبارة، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف، كما أعطى أن النهر مثال للزمان. إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالا للسنين.
ودَأَباً معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] كدأبك من أم الحويرث قبلها.. البيت وقرأ جمهور السبعة «دأبا» بإسكان الهمزة، وقرأ عاصم وحده «دأبا» بفتح الهمزة، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة، وهما مثل: نهر ونهر. والناصب لقوله: دَأَباً تَزْرَعُونَ، عند أبي العباس المبرد، إذ في قوله تَزْرَعُونَ تدأبون، وهي عنده مثل قولهم: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر، كأنه قال: تزرعون تدأبون دأبا.
وقوله فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب، ويؤكل الأقدم فالأقدم فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر، وادخروا أيضا الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف»، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء حتى دعا لهم النبي عليه السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره، قال له الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف.
وأسند الأكل في قوله: يَأْكُلْنَ إلى السنين اتساعا من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [النمل: ٨٦، يونس: ٦٧، غافر: ٦١] وكما قال: نهارك بطال وليلك قائم وهذا كثير في كلام