
ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُوجِدٍ وَمُبْدِعٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، فَذَلِكَ الشَّخْصُ يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤١]
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ عَادَ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَاهُ، وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّاقِيَ لَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ قَصَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يُوسُفُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَأَيْتَ أَمَّا حُسْنُ الْعِنَبَةِ فَهُوَ حُسْنُ حَالِكَ، وَأَمَّا الْأَغْصَانُ الثَّلَاثَةُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ الْمَلِكُ عِنْدَ انْقِضَائِهِنَّ فَيَرُدُّكَ إِلَى عَمَلِكَ فَتَصِيرُ كَمَا كُنْتَ بَلْ أَحْسَنَ، وَقَالَ لِلْخَبَّازِ: لَمَّا قَصَّ/ عَلَيْهِ بِئْسَمَا رَأَيْتَ السِّلَالُ الثَّلَاثُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ الْمَلِكُ عِنْدَ انْقِضَائِهِنَّ فَيَصْلُبُكَ وَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ، ثُمَّ نَقَلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُمَا قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا فَقَالَ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا لِأَجْلِهِ قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا فَقِيلَ إِنَّهُمَا وَضَعَا هَذَا الْكَلَامَ لِيَخْتَبِرَا عِلْمَهُ بِالتَّعْبِيرِ مَعَ أَنَّهُمَا مَا رَأَيَا شَيْئًا وَقِيلَ: إِنَّهُمَا لَمَّا كَرِهَا ذَلِكَ الْجَوَابَ قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بِنَاءً عَلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا نَقَلَ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا [يوسف: ٤٢] وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَحْيِ لَكَانَ الْحَاصِلُ مِنْهُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ لَا الظَّنَّ وَالتَّخْمِينَ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ.
الْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا لَمَّا سَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنَامِ صَدَقَا فِيهِ أَوْ كَذَبَا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ عَاقِبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ الْغَيْبِ عِنْدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَقَعَ فِي الظَّنِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ الْجَوَابَ عَلَى عِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَقَوْلُهُ:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ مَا عَنَى بِهِ أن الذي ذكره وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ حَكَمَهُ فِي تَعْبِيرِ مَا سَأَلَاهُ عَنْهُ ذَلِكَ الذي ذكره.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٢]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
فِيهِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالظَّنِّ هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوِ النَّاجِي فَعَلَى الْأَوَّلِ كَانَ الْمَعْنَى وَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ظَنَّ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَوْنَهُ نَاجِيًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَحْمِلَ هَذَا الظَّنَّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ التَّعْبِيرَ بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَوُرُودُ لَفْظِ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَقَالَ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الْحَاقَّةِ: ٢٠] وَالثَّانِي: أَنْ تَحْمِلَ هَذَا الظَّنَّ عَلَى حَقِيقَةِ/ الظَّنِّ، وَهَذَا

إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ ذَلِكَ التَّعْبِيرَ لَا بِنَاءً عَلَى الْوَحْيِ، بَلْ عَلَى الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ وَالْحُسْبَانَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الظَّنَّ صِفَةُ النَّاجِي، فَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ السَّائِلَيْنِ مَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ بِنُبُوَّةِ يُوسُفَ وَرِسَالَتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا كَانَا حَسَنَيِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَا يُفِيدُ فِي حَقِّهِمَا إِلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي حَكَمَ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَيَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَلِكِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أَيْ عِنْدِ الْمَلِكِ. وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَةِ إِخْوَتِهِ لِمَا أَخْرَجُوهُ وَبَاعُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ مَظْلُومٌ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا حُبِسَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى يُوسُفَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَمَسُّكَهُ بِغَيْرِ اللَّه كَانَ مُسْتَدْرَكًا عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَصْلَحَتَهُ كَانَتْ فِي أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنْ لَا يَعْرِضَ حَاجَتَهُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّه، وَأَنْ يَقْتَدِيَ بِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ حِينَ وُضِعَ فِي الْمَنْجَنِيقِ لِيُرْمَى إِلَى النَّارِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَلَمَّا رَجَعَ يُوسُفُ إِلَى الْمَخْلُوقِ لَا جَرَمَ وَصَفَ اللَّه ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَاهُ ذَلِكَ التَّفْوِيضَ، وَذَلِكَ التَّوْحِيدَ، وَدَعَاهُ إِلَى عَرْضِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُ بِذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّهُ بَقِيَ لِذَلِكَ السَّبَبِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى رَبِّهِ إِلَى هَذَا الْمَخْلُوقِ عُوقِبَ بِأَنْ لَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ رُجُوعَ يُوسُفَ إِلَى الْمَخْلُوقِ صَارَ سَبَبًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْسَاهُ ذِكْرَ رَبِّهِ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ مُدَّةً طَوِيلَةً.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي إِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: ٣٩] ثم إنه هاهنا أَثْبَتَ رَبًّا غَيْرَهُ حَيْثُ قَالَ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَمَعَاذَ اللَّه أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ رَبًّا بِمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَرَبُّ الثَّوْبِ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الرَّبِّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُنَاقِضُ نَفْيَ الْأَرْبَابِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَا كان لنا أن نشرك باللَّه من شيء، وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلشِّرْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَتَفْوِيضُ الْأُمُورِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَهَهُنَا الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى كَالْمُنَاقِضِ لِذَلِكَ التَّوْحِيدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالنَّاسِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، إِلَّا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِعَامَّةِ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى بِالصِّدِّيقِينَ أَنْ يَقْطَعُوا نَظَرَهُمْ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْ لَا يَشْتَغِلُوا إِلَّا بِمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِغَيْرِ اللَّه وَطَلَبَ مِنْ ذَلِكَ السَّاقِي أَنْ يَشْرَحَ حَالَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّيَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنْ ذِكْرِ اللَّه مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّه أَوْ قَدَّرَ اللَّه فَلَمَّا أَخْلَاهُ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَقَعَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ رَاجِعٌ إِلَى النَّاجِي وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشيطان أنسى

ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَذْكُرَ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ حَتَّى طَالَ الْأَمْرُ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بِهَذَا السَّبَبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّه يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ»
وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عُوقِبَ بِسَبَبِ رُجُوعِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّه، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ السِّجْنِ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا حَاجَتُكَ قَالَ: أَنْ تَذْكُرَنِي عِنْدَ رَبٍّ سِوَى الرَّبِّ الَّذِي قَالَ يُوسُفُ، وَعَنْ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قِيلَ: يَا يُوسُفُ اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ فَبَكَى يُوسُفُ وَقَالَ: طُولُ الْبَلَاءِ أَنْسَانِي ذِكْرَ الْمَوْلَى فَقُلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَوَيْلٌ لِإِخْوَتِي.
قَالَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالَّذِي جَرَّبْتُهُ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِي إِلَى آخِرِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا عَوَّلَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى غَيْرِ اللَّه صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَالشِّدَّةِ وَالرَّزِيَّةِ، وَإِذَا عَوَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّه وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ قَدِ اسْتَمَرَّتْ لِي مِنْ أَوَّلِ عُمُرِي إِلَى هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي بَلَغْتُ فِيهِ إِلَى السَّابِعِ وَالْخَمْسِينَ، فَعِنْدَ هَذَا اسْتَقَرَّ قَلْبِي عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي التَّعْوِيلِ عَلَى شَيْءٍ سِوَى فَضْلِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِأَنَّ صَرْفَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْلَى مَنْ صَرْفِهَا إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْعِبَادِ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ الثَّانِي تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا قَرَّرَهُ الْقَائِلُ الْأَوَّلُ تَمَسَّكَ بِأَسْرَارِ الْحَقِيقَةِ وَمَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَشَرِبَ مِنْ مَشْرَبِ التَّوْحِيدِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَيْضًا فَفِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَدْرَكًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي بِحَارِ الْعُبُودِيَّةِ لَا جَرَمَ صَارَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُؤَاخَذًا/ بِهِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: الَّذِي يَصِيرُ مُؤَاخَذًا بِهَذَا الْقَدْرِ لَأَنْ يَصِيرَ مُؤَاخَذًا بِالْإِقْدَامِ عَلَى طَلَبِ الزِّنَا وَمُكَافَأَةِ الْإِحْسَانِ بِالْإِسَاءَةِ كَانَ أَوْلَى فَلَمَّا رَأَيْنَا اللَّه تَعَالَى آخَذَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَمَا عَابَهُ بَلْ ذَكَرَهُ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُبَرَّأً مِمَّا نَسَبَهُ الْجُهَّالُ وَالْحَشْوِيَّةُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الشَّيْطَانُ يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ، وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَكَانَ قَدْ أَزَالَ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى عَنْ قُلُوبِ بَنِي آدَمَ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَدْعُو إِلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَاشْتِغَالُ الْإِنْسَانِ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ يَمْنَعُهُ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ اللُّغَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ بَضَعْتُ بِمَعْنَى قَطَعْتُ وَمَعْنَاهُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يُذْكَرُ الْبِضْعُ إِلَّا مَعَ عَشَرَةٍ أَوْ عِشْرِينَ إِلَى التِّسْعِينَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ وَمَا رَأَيْتُهُمْ يَقُولُونَ بِضْعَ وَمِائَةً،
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ عليه