
اركعوا واسجدوا، وإليه وحده توجهوا حنفاء غير مشركين به شيئا من ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس ولا قمر ولا نجم ولا شجر، ولا حيوان كالعجل أبيس لدى المصريين.
فالمؤمن الصادق الإيمان لا يذل ولا يخزى لأحد غير الله مما خلق، بدعاء ولا استغاثة ولا طلب فرج من ضيق، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شىء، وأن كل ما سواه فهو خاضع لسلطانه، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى، فإليه وحده الملجأ فى كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير فى الجزاء على الأعمال يوم يقوم الحساب.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي إن تخصيصه بالعبادة هو الدين الحق الذي لا عوج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلّت عليه براهين العقل والنقل.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين الحق الذي لا اعوجاج فيه، لا ما ساروا عليه تبعا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد بأرباب متفرقين.
وقد خفيت هذه الحقيقة على كثير ممن يدعون اتباع القرآن، فتراهم يتوجهون إلى غير الله من الأولياء والصلحاء إذا مسهم الضر، ويدعونهم خاشعين متذللين، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند الله، وما هذا إلا مثل فعل من قبلهم من المشركين، فليس لهم من صفات الربوبية أدنى حظ، ولا من صفات الألوهية أقل نصيب.
وبعد أن بين لهما الحق فى مسألة التوحيد وعبادة الله وحده شرع فى إنبائهما عما استنبآه عنه فقال:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)

تأويل يوسف عليه السلام رؤيا صاحبى السجن ووصيته للناجى منهما
الإيضاح
(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا، ولم يعيّنه ثقة بدلالة الحال، ورعاية لحسن الصحبة.
(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي فيسقى سيده ومالك رقبته. وقد روى أن يوسف قال له فى تعبير رؤياه: ما أحسن ما رأيت، أما الكرمة فهى الملك وحسنها حسن حالك عنده، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضى فى السجن ثم تخرج وتعود إلى عملك.
(وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه.
(فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي الطير الكواسر كالحدأة والرّخمة ونحوهما روى أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من السلال الثلاث، فثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب.
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) الاستفتاء فى اللغة: السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه: أي إن الأمر الذي يهمكما ويشكل عليكما وتستفتيانى فيه قد بتّ فيه وانتهى حكمه.
وهذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على تعبير رؤياهما داخلة فى باب المكاشفة والإنباء عن الغيب، قالها لهما ليثقا بقوله، ويعلما أنه إنما قالها بوحي من ربه، وأن الملك قد حكم فى أمرهما بما قاله.
(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقى ربه خمرا، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية، وقد يكون هذا بناء على وحي فيكون