٧- دل قوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب.
٨- الله تعالى غالب على أمره، فعال لما يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، نافذ أمره في الخلائق، كما قال سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
٩- أكثر الناس لا يعلمون حقائق الأمور الإلهية، ويكتفون بظواهر الأمور، والأقل كالأنبياء والمؤمنين الأتقياء هم الذين يدركون أن الله غالب على أمره.
الفصل الرابع من قصة يوسف يوسف وامرأة العزيز
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
الإعراب:
هَيْتَ لَكَ اسم لهلمّ، ولذلك كانت مبنية، وكان الأصل أن تبنى على السكون، إلا أنه لم يمكن أن تبنى على السكون لأنهم لا يجمعون بين ساكنين وهما الياء والتاء. ومنهم من بناها على الفتح لأنه أخف الحركات. ومنهم من بناها على الكسر لأنه الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين، ومنهم من بناها على الضم لحصول الغرض من زوال التقاء الساكنين.
ومن قرأ: هيئت لك بالهمز فمعناه: تهيأت لك، وتكون التاء مضمومة لأنها تاء المتكلم.
مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدر، يقال: عاذ يعوذ معاذا وعوذا وعياذا.
رَبِّي في موضع نصب على البدل من هاء إِنَّهُ وهي اسم إن.
أَحْسَنَ مَثْوايَ فعل ومفعول، ومن قرأ أحسن فهو خبر إنّ، أي إن ربي أحسن مثواي.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الهاء ضمير الشأن والحديث. وجملة لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ جملة فعلية خبر إن.
أَنْ رَأى.. حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره. وأَنْ رَأى في موضع رفع لأنه مبتدأ. ولا يجوز إظهار خبره بعدلطول الكلام بجوابها، وقد حذف خبر المبتدأ هنا والجواب معا، والتقدير: لولا رؤية برهان ربه موجودة لهمّ بها. ولا يجوز أن يكون وَهَمَّ بِها جوابلأن جوابلا يتقدم عليه.
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ الكاف من كَذلِكَ يجوز أن تكون رفعا، بأن تكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: البراهين كذلك، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك.
البلاغة:
فَصَدَقَتْ وفَكَذَبَتْ والصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بين كلّ طباق.
مِنَ الْخاطِئِينَ من باب تغليب الذكور على الإناث.
المفردات اللغوية:
وَراوَدَتْهُ طلبت منه زليخا مواقعتها برفق ولين ومخادعة، ومنه قوله: سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ [يوسف ١٢/ ٦١] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته، ليرسل أخاه بنيامين معنا، ومنه الرائد: الذاهب لطلب شيء. والمراد من آية وَراوَدَتْهُ تحايلت لمواقعته إياها، ولم تجد منه قبولا. وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أحكمت إغلاق أبواب البيت، قيل: كانت سبعة، والتشديد: للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. هَيْتَ لَكَ أي هلمّ وأقبل وبادر، أو تهيأت، وهي لغة عرب حوران والكلمة: اسم فعل مبني على الفتح، ولام لَكَ للتبيين، كالتي في «سقيا لك».
قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله وأتحصن من الجهل والفسق. إِنَّهُ رَبِّي إن الذي اشتراني سيدي قطفير، أو إن الشأن أَحْسَنَ مَثْوايَ مقامي، أي أحسن تعهدي، إذ قال لك:
أَكْرِمِي مَثْواهُ فلا أخونه في أهله. وقيل: إن الضمير لله تعالى، أي إنه الذي خلقني وأحسن منزلتي بأن عطف عليّ قلب سيدي، فلا أعصيه. إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ المجازون الحسن بالسيء، وقيل: الزناة، فإن الزنى ظلم على الزاني والمزني بأهله.
هَمَّتْ بِهِ قصدت منه الجماع ومخالطته أو أن تبطش به لعصيانه أمرها، والهم بالشيء:
قصده والعزم عليه ومنه الهمام: وهو الذي إذا همّ بشيء أمضاه. وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا وجود النبوة، أو مراقبة الله تعالى وطاعته ورؤية ربه متجليا عليه، لقصد مخالطتها، والمفهوم منأنه لم يقصد ذلك أصلا، لوجود خشية الله في قلبه لأنحرف امتناع لوجود، فعند ما تقول: لولا إتيان ضيف إلى البارحة لجئت إليك، تعني تعذر المجيء لصاحبك بسبب مجيء ضيف يزورك، فالضيف مانع من حصول المجيء، وكذلك هنا: لولا برهان النبوة ومراقبة الله لهمّ بها.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه وأريناه البرهان. لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الخيانة وَالْفَحْشاءَ الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ المختارين الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته وعلى قراءة كسر اللام الْمُخْلَصِينَ يكون المراد: المخلصين في الطاعة.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار، أو ضمن الفعل معنى الابتدار، أي أسرع كل منهما نحو الباب، وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج،
فمبادرته كانت للفرار، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. وَقَدَّتْ شقت قميصه من دبر، أي من الخلف والقد: الشق طولا. وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أي نزهت نفسها، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. وما نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بأن يضرب.
وتعبير وَاسْتَبَقَا الْبابَ من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.
قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي قال يوسف: هي طالبتني بالمواتاة، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل:
ابن عمها، أو ابن خالها، وكان صبيا في المهد، أنطقه الله تعالى.
مِنْ قُبُلٍ من قدام أو أمام. مِنْ دُبُرٍ من خلف. فَلَمَّا رَأى زوجها قالَ: إِنَّهُ أي إن قولك: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَّ أي من حيلتكن أيها النساء، والخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن.
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي ثم قال زوجها: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أي الاثمين المذنبين، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به.
التفسير والبيان:
كان يوسف عليه السّلام في غاية الحسن والجمال، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها
ذلك على أن تجملت له، ودعته لمخالطتها، وتمحلت لمواقعته إياها، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل: كانت سبعة، وقالت: هيت لك، أي هلمّ أقبل وبادر، وتهيأت لك، وزيدت كلمة لَكَ لبيان المخاطب، مثل: سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام.
فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: أعوذ بالله معاذا، وألتجئ إليه وأعتصم به مما تريدين مني، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين إِنَّهُ (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير) أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلي ومقامي وأحسن إلي، حين قال لك: أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة، وإتيان الفاحشة في أهله، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء.
ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به، لعصيانه أمرها، وعدم نزوله عند رغبتها، ومخالفته مرادها، وهي سيدته وهو عبدها، أو همت بمخالطته.
وَهَمَّ بِهاأَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة وَهَمَّ بِها وحدها دون بقية الجملة، وإذا فسرت الجملة مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أنحرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها لأن قوله: وَهَمَّ بِها يدل عليه، كقولك: (هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه: (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة
البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم
ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها».
والبرهان الذي رآه: هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عز وجل.
والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السّلام المعصية قط، ولولا حفظ الله ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران: الأول- إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ، والثاني- إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان الله وتذكره، مثل قوله تعالى:
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء ١٧/ ٧٤].
وبه تبين وجود الفارق بين الهمين: همها به وهمه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه لعصمة الأنبياء، قال تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ
لذا أتبعه بقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص ٣٨/ ٤٧].
وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها، وهما يتسابقان إلى الباب، فقال تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي وتسابقا إلى الباب، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف ٧/ ١٥٥] أو بناء على تضمين اسْتَبَقَا معنى: ابتدرا، والتسابق مختلف الغرض، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي لحقته في أثناء هربه، فأمسكت بقميصه من الخلف، فقطعته.
وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف، فقالت: ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس، أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد، ولم يقل:
سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي.
وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه السّلام هو الصادق وهي «١» :
١- إن يوسف عليه السّلام كان في اعتبارهم عبدا، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد.
٢- شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، وطالب المرأة لا يفعل ذلك.
٣- زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه، خلافا لما كان عليه حال يوسف.
٤- لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب، هذا الفعل المنكر.
٥- لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة، بل أجملت كلامها، وأما يوسف فصرح بالأمر.
٦- إن زوج المرأة كان عاجزا، فطلب الشهوة منها أولى.
لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل، على سبيل التخفيف والتخويف لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بالسوء، وأرادت تصيّد عذر ما، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها.
ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.
ثم جاء دور براءة يوسف: قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي.. قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء: هي التي راودته عن نفسه،
فامتنع منها، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها.
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. وللعلماء قولان في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال:
الأول- أنه كان ابن عم لها كبير، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي، فقال: إن كان «١» شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص، ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ.. أي من عملكن، ثم قال ليوسف: أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها: استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين.
والثاني- وهو قول ابن عباس وجماعة: أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد.
روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم».
والثالث- أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا، ولا ينسب إلى الأهل.
ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر، قال العزيز أو الشاهد: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إن هذا
الاتهام من جملة كيدكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي إن مكر المرأة وكيدها شديد التأثير في النفوس، غريب لا يفطن له الرجال، ولا قبل لهم به، ولا لحيلها وتدبيرها.
ويا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة واكتم خبرها عن الناس، ويا أيتها المرأة اطلبي المغفرة لذنبك، إنك كنت من زمرة الخاطئين أي المذنبين. وقوله هذا لأنه لم يكن غيورا، فكان ساكنا، أو لأن الله تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف، حتى كفي ما قد يبادر به وعفا عنها.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات بيان محنة يوسف، وإظهار براءته، واتهام زوجة العزيز، وتكون الآيات دالة على ما يأتي:
١- اتهام امرأة العزيز بمراودة يوسف عن نفسه، وذكر في الآية ثلاثة تصرفات تؤكد تهمتها وهي: المراودة، وإغلاق الأبواب، ودعوتها يوسف لنفسها قائلة: هَيْتَ «١» لَكَ وهي لغة أهل حوران جنوب سوريا، أي هلمّ أقبل وتعال.
٢- دفاع يوسف عن نفسه، مستخدما في الجواب ثلاثة أشياء: مَعاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، استعاذ بالله واستجار به مما دعته إليه، وتذكر فضل سيده عليه إذ آواه وأحسن مثواه ومقامه وتعهده بالرعاية والحفظ، ونظر إلى المستقبل نظرة العاقل المتأمل الذي يصون
مستقبله، وقرر أنه لا يظفر الظالمون الخائنون الذين يقابلون الإحسان بالإساءة.
٣- هناك فرق واضح بين همّها به وهو المعصية من مخالطة وانتقام، وبين همّه بها وهو الفرار والنجاة منها لأن الأنبياء معصومون عن المعاصي.
وأدلة عصمة الأنبياء «١» :
الدليل الأول- إن الزنى من منكرات الكبائر، وكذلك الخيانة من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموقعة بالفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، ثم إن إقدام الصبي الذي تربى في حجر إنسان على الإساءة إلى المنعم عليه من أقبح المنكرات والأعمال.
الدليل الثاني- إن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عن النبي، لقوله تعالى:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ثم إن الله تعالى جعل يوسف عليه السّلام من عباده المخلصين- بفتح اللام- الذين خلصهم الله من الأسواء، وبكسر اللام: من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السّلام الذين قال الله فيهم: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [ص ٣٨/ ٤٦- ٤٧].
الدليل الثالث- من المحال أن يصدر عن الأنبياء عليهم السلام زلة أو هفوة ثم لا يتبعونها بالتوبة والاستغفار.
الدليل الرابع- كل من كان له تعلق بتلك الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عليه السّلام من المعصية.
والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السّلام، وتلك المرأة وزوجها،
والنسوة، والشهود، ورب العالمين، وإبليس، الكل شهدوا ببراءة يوسف عن الذنب والمعصية، كما تقدم سابقا.
٤- قال العلماء: لما برّأت نفسها ولم تكن صادقة في حبه- لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب- قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.
٥- الشاهد من أهلها: إما طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح،
للحديث المتقدم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»
وذكر فيهم شاهد يوسف، وإما رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها.
٦- في آية قدّ القميص مقبلا ومدبرا دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة لأن القميص إذا جبذ من خلف تمزّق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدّام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
٧- إذا كان الشاهد على براءة يوسف طفلا صغيرا، فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات وإذا كان رجلا صحّ الاعتماد على الأمارة، كالعلامة في اللقطة وغيرها فقال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة، فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة، فإن السلطان ينظر في ذلك، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال الحنفية وغيرهم: إذا اختلف الرجل والمرأة في متاع البيت: إن ما كان للرجال فهو للرجال، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومة وأصل الاعتماد على الأمارات هذه الآية.
٨- الحذر من فتنة النساء، فإن كيدهن عظيم لعظم فتنتهن، واحتيالهن في التخلص من ورطتهن،
ذكر مقاتل عن أبي هريرة قال: قال