
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾، قال أبو إسحاق (١): ليسوا يريدون أن يعقوب لا يصدق من يعلم أنه صادق، هذا محال لا يوصف الأنبياء بذلك، لكن المعنى: لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف؛ لمحبتك إياه وظننت أنا قد كذبناك.
ونحو هذا قال أبو العباس (٢) في معنى هذه الآية: قال: معناه: ولو كنا صادقين في كل الأشياء، لاتهمتنا في هذه القصة ولم يقرب قولنا من قلبك، لغلبة استغشاشك لنا وتهمتك إيانا في أمر يوسف.
وقال أبو بكر: أرادوا نحن صادقون عند أنفسنا، وأنت غير مصدق لنا، إن لم تقم أمارات صدقنا عندك، فلو كنا صادقين عند الله أولاً ثم عند أنفسنا ما صدقتنا، إذ لم يقم عندك براهين صدقنا.
١٨ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قال ابن عباس (٣)
(٢) لعله أبو العباس الأصم محمد بن يعقوب السناني النيسابوري الوراق، أحد أئمة الشافعية، إمام ثقة حافظ، توفي سنة ٣٤٦ هـ. انظر: "طبقات فقهاء الشافعية" ١/ ٧٦، و"طبقات الشافعية" للآسنوي ١/ ٤٢.
(٣) الطبري ١٢/ ١٦٣، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١١ ب وانظر. "الدر" ٤/ ١٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨.

ومجاهد (١) وعامة المفسرين (٢): كان ذلك دم سَخْلة، وقيل جدي (٣)، وقيل: حمل، كل هذا من لفظهم.
قال الفراء (٤) وأبو العباس (٥) والزجاج (٦) وابن الأنباري (٧) وأصحاب العربية (٨) ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير: ذي كذب، ولكنه أجري على الوصف بالمصدر للمبالغة، وهذا معنى قول الأخفش (٩): جعل الدّمَ كذبًا لأنه كذب فيه، كما قال ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي: مسكوب، ودرهم ضرب الأمير، وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: ٣٠] ورجل عدل وصوم (١٠)، ونساء نَوْح ومنه (١١):
... وجاوبي نَوْحًا قِيَاما
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٣، والبغوي ٤/ ٢٢٢، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والرازي ١٨/ ١٠٢.
(٣) قاله السدي كما في الطبري ١٢/ ١٦٣، والشعبي كما في الطبري ١٢/ ١٦٤.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨.
(٥) "تهذيب اللغة" للأزهري ٤/ ٣١١٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٧) الرازي ١٨/ ١٠٢.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٥٩٠، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ١/ ٢١٧، و"تهذيب اللغة" للأزهري ١٠/ ١٦٧.
(٩) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٩٠.
(١٠) (صوم): ساقطة من (ج).
(١١) بعض بيت من الوافر وتمامه:
هَريْقي منْ دموعها سجالا... صنباعَ وجاوبي نَوْحًا قيامًا ولم ينسبه الواحدي هنا، وهو بلا نسبة أيضاً في "مجاز القرآن" ١/ ٤٠٤، الطبري ١٥/ ٢٤٩ (العلمية)، القرطبي ١٠/ ٤٠٩.

ولما سميتا بالمصدر، سُمِّي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلود، ومنه قوله تعالي: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم: ٦] وقالوا للكذب الكاذبه، وللخيانة الخائنة، ومثله العاقبة والعافية.
قال الحسن (١) وسعيد بن جبير (٢): لما جاءوا يعقوب بالقميص ملطخًا بالدم، قال: كذبتم، ما عهدي (٣) بالذئب حليمًا، لو كان أكله لخرق قميصه.
وقال الكلبي عن ابن عباس (٤): قال لهم: لقد كان هذا الذئب رفيقًا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه، قالوا: فقتله اللصوص، قال: كيف قتلوه وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.
وقوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ قال ابن عباس (٥) وعامة المفسرين (٦): زينت لكم أنفسكم أمرًا.
قال أهل المعاني: التسويل تقدير معنى في النفس على الطمع في
(٢) أخرجه الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ١٢/ ١٦٤ وكذا ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١ ب.
(٣) في (أ)، (ج): (ما عهد بي).
(٤) ذكره الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والقرطبي ٩/ ١٤٩.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٦) الثعلبي ٧/ ٦٧ ب، والطبري ١٢/ ١٦٥، والبغوي ٤/ ٢٢٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، القرطبي ٩/ ١٥١، و"مشكل القرآن وغريبه" ٢١٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.

تمامه، وقوله ﴿بَل﴾ رد لقولهم: أكله الذئب، كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون.
وقال الأزهري (١): وكأن التسويل تفعيل من سوْل الإنسان، وهي أمنيته التي يطلبها، فيزين لطالبها الباطل وغيره من أمر الدنيا، وأهله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز لما كثر في كلامهم.
وقوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قال مجاهد (٢)، والمفسرون (٣): أي صبر ليس فيه جزع ولا شكوى، وروي مرفوعًا أن النبي - ﷺ -، سئل عن الصبر الجميل فقال: "هو صبرٌ لا شكوى فيه" (٤).
وقال أهل المعاني: الصبر الجميل هو أن يصبر حتى لا يظهر فيه تغير بعبوس وجه وانقباض عما كان يتبسط (٥) فيه قبل المصيبة.
واختلفوا في وجه ارتفاع الصبر، فقال الخليل (٦): معناه: فالذي أعتقده صبر جميل.
وقال قطرب (٧): معناه: فصبري صبر جميل.
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٥، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٢ أ، والفريابي وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٩.
(٣) الطبري ١٢/ ١٦٥، الثعلبي ٧/ ٦٧ ب، البغوي ٤/ ٢٢٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣.
(٤) أخرجه الطبري ١٢/ ١٦٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٢ أ. قال المناوي: هو من حديث حبان بن حيلة وهو مرسل، و"الفتح السماوي" ٢/ ٧٢٧.
(٥) في (ب): (تبسط).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والقرطبي ٩/ ١٥١.

وقال الفراء (١): فهو صبر جميل، وقال أبو عبيد (٢): تقديره: فليكن مني صبر جميل.
وقال الزجاج (٣): فشأني صبر جميل، قال ابن الأنباري: والمعاني متقاربة. وقال بعضهم: فصبر جميل أولى بي، وعلى هذا هو ابتداء وخبره محذوف.
وقال أبو إسحاق (٤): ويجوز في غير القرآن: فصبرًا جميلاً، وأنشد (٥):
يَشْكُو إليَّ جَمَلِي طُولَ السّرَى | يا جَمَلِي ليسَ إليَّ المُشْتَكَى |
وأنشدوا (٧):
ألا انمامي فصَبْرًا بَليَّة | وقد يُبْتَلَى المَرْءُ الكَرِيمُ فيَصبِرُ |
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٨٩، و"الدر المصون" ٦/ ٤٥٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٥) الأبيات لملبد بن حرملة، في ابن السيرافي ص ٢٢٨ وبلا نسبه في "معاني الفراء" ٢/ ٥٤، و"معاني الزجاج" ٣/ ٩٧، و"تأويل مشكل القرآن" ص ١٠٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣، ٣٠٤، و"اللسان" (شكا) ٤/ ٢١١٤، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٠٩، والقرطبي ٩/ ١٥٣، و"كتاب سيبويه" ١/ ٣٢١، و"شواهد الكشاف" (شكا إلي جملي).
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.
(٧) كذا في النسخ ولعل البيت: (ألا يا نمامي فصبرًا..) وبه يستقيم الوزن، وهو من الطويل، ولم أقف عليه.