آيات من القرآن الكريم

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

فصلت الآتية فراجعه «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» من التدبير وحسن الاستخراج وتسهيل الأمور «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ» بمصالح عباده يجريها حسب إرادته «الْحَكِيمُ ١٠٠» في جميع أفعاله، فهو الذي يهيء الأسباب ويؤخر الآمال إلى الآجال كما في هذه القضية، فإن أولها كان هما وغما وحزنا وآخرها غدا فرجا وسرورا وانشراحا حتى بلغت أعلى مراتب الدنيا والدين،
ولما تم ليوسف الأمر على ما أراده له الله، تحدث بنعمة ربه فقال «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» من هنا تبعيضيّة لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض علم التعبير، وكثير من أحاديث الله لا يعلمها هو ولا غيره، قال هذا عليه السلام على طريق إظهار الشكر لربه لذلك طفق يعددها على نفسه، وهذا قبل وفاته بأسبوع كما قيل، إذ انتهت القصة بختام الآية المارة عد ١٠٠، يا «فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ١٠١» من آبائي قالوا وأقام يعقوب وآله بعد التلاقي في مصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأرغد بال وأحسن حال، وقد حضرت يعقوب الوفاة فأوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة ويدفنه مع إسحاق وإبراهيم، فلما توفي وضعه في تابوت من ساج وحمله إلى الشام، فوافق موت أخيه العاص توءمه الذي خرج قبله، وتلاه هو، أي أن يعقوب خرج عقبه ولذلك سميا بهذين الاسمين فأخذه معه ودفنهما في قبر واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة، وعمر يوسف بعدهما ثلاثا وعشرين سنة، ورجع إلى مصر وسأل الله حسن الخاتمة وقيل عاش عليه السلام بعد أبيه وعمه ستين سنة أو أكثر على ما قيل، وهما ابن مائة واثنين وأربعين سنة، ووضع في صندوق من رخام، ودفن في نيل مصر، لأن أهله والمصريين تشاحوا في جسمه المبارك كل يريد دفنه في جبانته طلبا لبركته، ثم اتفقوا على دفنه في وسط النيل كي ينال بركته كل من شرب منه من الإنسان والحيوان والنبات والأرض بسبب جريانه على تابوته، فلا يختص به واحد دون آخر، وبقي تابوت يوسف بالنيل وعمت بركته فيه، ولم يسمى المبارك إلا بعد وضع تابوته فيه كما سيأتي بيانه،

صفحة رقم 260

وكيفية العثور عليه في الآية ٥٠ من سورة البقرة ج ٣، أي زمن موسى عليه السلام إذ أخرجه من النيل عند خروج بني إسرائيل ودفنه مع آبائه في الأرض المقدسة. قالوا وانما ابتلى الله يعقوب بهذا البلاء، لأنه ذبح شاة فقام على بابه مسكين صاثم فلم يطعمه منها، أو انه شوى عناقا وأكله ولم يطعم جاره منه بعد أن شم ريح قترها، أو أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور عليه فلم يرحمها.
وهذه روايات لو فرض صحتها فلا تقدح بعصمة الأنبياء لانها ليست بسيئات، إلا أنهم عدوها سيئات إذ يطلب من الأنبياء أعمالا بحسب علو تاجهم وشريف مراتبهم، وكل منهم امتحن وصبر وفوض أمره إلى الله، قالوا والسبب في إتيان الفرج هو أن يعقوب عليه السلام كان له أخ في الله فقال له ما الذي أذهب نور بصرك وقوس ظهرك ولم تبلغ في السن ما بلغه أبواك؟ قال البكاء على يوسف والحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال له إن الله يقرؤك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكوني إلى غيري فقال إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وانما رجل سألني فأجبته لا على طريق الشكوى، فقال جبريل الله أعلم بما تشكو. فقال يعقوب يا رب تلك خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فقال غفرتها لك، قال يا رب أردد علي ريحانتي ثم اصنع بي ما شئت، فقال جبريل ان الله يقرئك السلام ويقول أبشر فو عزّتي وجلالي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وحدت عليك؟
قال لا، قال لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا، وأن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين، اصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما ثم نادى من كان جائعا فليفطر عند آل يعقوب،
مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار:
وصار بعد ذلك إذا تغدى أو تعشى نادى مناديه من أراد أن يتغدى أو يتعشى فليأت آل يعقوب فهو أول من سن النداء للطعام وجدد هذه السنة السيد هاشم جدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يشاركه في هذه الخصلة أحد من العرب، وفي عصرنا هذا أحباها الشيخ جدعان بن مهيد من عشائر عنزة، أما الكرم المطلق فيكثر

صفحة رقم 261

في العرب وغيرهم ممن خالطهم، بارك الله فيهم، وأدام الكرام وأسبل عليهم ستره ونشر عليهم خيره، ودرّ عليهم من بركاته ووفقهم لما يحبه ويرضاه. وهنا بحث آخر وهو أنه عليه السلام طلب الوفاة قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الوفاة غير يوسف عليه السلام، وأنه توفى بعد هذا التمني بسبعة أيام، وذلك لأنه بعد أن تم له ملك مضر وحواليها وبلغ كل ما تمناه البشر الكامل لا سيما بعد جمع شمله مع أبيه وأهله، وهو يعلم أن مصير الدنيا بما فيها إلى الفناء لا محالة، ولو عمر ما عمر تاقت نفسه الطاهرة إلى الملك الدائم بجوار ربه الكريم، ولا يبعد بالرجل الكامل أن يتمنى ذلك رغبة بالنعيم الذي لا يزول، ولا يمنع من هذا قوله صلّى الله عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لأمر نزل به، وفي رواية لا تمنوا الموت فإن هول المطلع عظيم وان من سعادة المرء أن يطول عمره ويحسن عمله، وعليه فإن الموت عند وجود الضرر ونزول البلاء مكروه، والصبر عليه أولى، لأنه عليه السلام لم يتمنّه إبان شدته عند ما كان في الجبّ أو السجن، بل تمنّاه بعد ما تم له كل شيء تتوق النفس إليه، وفيه معنى آخر وهو محبة لقاء الله تعالى، فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. وقد تمناه إلياس عليه السلام كما سيأتي في قصته في الآية ١٢٣ من الصافات الآتية، وروى البخاري في صحيحه حديث عدم تمني الموت، وهو تمناه رضي الله عنه، وذلك أن أهل بلدته اختلفوا فيما بينهم حينما رجع إلى بلده بعد غيابه عنها بسبب طلب العلم، فكان منهم من يريد دخوله، ومنهم من لا يريده، ولما رأى خلافهم يؤدي إلى المقاتلة فيما بينهم، ويسبب موت بعضهم، تمنى الموت، فتوفاه الله حالا خشية حصول الفتنة، والإفساد بين أهل بلدته، وهذا لا بأس به أيضا، لهذه الغاية، أما تمنيه للفاقة والفقر وما ضاهاها من البلاء فلا يجوز، إذ عليه أن يلجأ إلى الله وينقي محارمه ونواهيه، ويسأله الفرج، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ولو تأمل هذه الآية ٤ من سورة الطلاق الذين ينتحرون والعياذ بالله لضيق ذات يدهم أو لأمر آخر داهمهم أو لمرض مزمن ألم بهم لما انتحروا وعجلوا بأنفسهم إلى النار،

صفحة رقم 262

فعلى الرجل الذي يمتحن بمثل ذلك أن يطلب من الله تعالى العافية فهو أحسن وأجدر بالعاقل، ويعلم أن الله قادر على معافاته مما هو فيه فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يكشف السوء عن عباده، وما قيل انه عليه السلام كيف يتمنى اللحاق بالصالحين والصلاح أول درجات المؤمنين، وهو من الأنبياء مردود، لأن القصد بالصالحين آباؤه عليهم السلام، وكلهم أنبياء لا مطلق الصالحين كما جرى عليه بعض المفسرين الذي فتح طريقا لمثل هؤلاء المعترضين، على أنه قد يكون لهضم النفس على طريق استغفار الأنبياء من بعض ما يقع منهم بالنسبة لدرجتهم. واعلم رعاك الله أن الملاذ الدنيوية كلها خسيسة وأهمها الأكل والجماع والرياسة، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع وهو ترطب الطعام بالبزاق الذي هر مستقذر في نفسه، وأنه عند ما يصل إلى المعدة يتعفن، وقد يشاركه في لذته الحيوان، وأن يتلذذ بالروث تلذذ الإنسان بأكل الفستق مع الحلوى، وقال العقلاء من كان همه ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منها، ولذة الجماع عبارة عن دفع الألم الحاصل من الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، فهو إخراج تلك الفضلات المتولدة في الطعام بمعونة جلدة وأعصاب مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس، مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ولعبته بها، ولهذا قال الشافعي رحمه الله الجماع عبارة عن ساعة جنون، ويكفي الرجل أن يجنّ في السنة مرة
واحدة، ويشاركه فيها الحيوان أيضا. ولذة الرياسة عبارة عن دفع ألم الذل وطلب السمعة والشهرة وحب الانتقام، وهذه إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازعه فيها ويحسده عليها لكفى بها هما وغما، لأن صاحبها لا يزال خائفا وجلا مترقبا الحوادث بسببها. فإذا كل ما في الدنيا خسيس، وفي الموت التخلص من الخسيس والرجوع إلى الحسن النفيس، فعلى العاقل أن يعمل صالحا في دنياه لتصلح له عقباه، ويحب لقاء الله، ولله در المعرّي حيث يقول:

صفحة رقم 263

ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد
تعب كلها الحياة فما أعجب الا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت أضعا ف سرور في ساعة الميلاد
فاتق الله أيها الإنسان وارض بما قسم الله لك، واحسن يحسن الله إليك. قال تعالى «ذلِكَ» الذي ذكرناه لك يا أكرم الرسل من هذه القصة البديعة «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» الذي «نُوحِيهِ إِلَيْكَ» كأمثاله من الأخبار والقصص الأخرى الماضية والآتية، «ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» أي أولاد يعقوب عليهم السلام فيما فعلوا أخيهم ما فعلوا «إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ» على إلقائه في الجبّ بعد إرادة قتله «وَهُمْ يَمْكُرُونَ ١٠٢» به إذ احتالوا عليه وعلى أبيهم لأخذه معهم إلى المرعى كي يمكروا به كما صوروه بينهم، وإنما أخبرناك بتفصيل هذه الحادثة لتخبر بها قومك والسائلين عنها فيتحققوا أنها بإخبار الله تعالى إياك، لا كما يزعمون أنك تلقيتها من الغير سماعا أو تعليما، لأنك أمي وبينك وبينها قرون كثيرة، فلم يكن في زمنك من حضرها، وهذا آخر ما قصّ الله على نبيه من قصة يوسف ووفاته، وليعلم أنه لا يجوز أن يقال ما تقوله العامة (وليد ضاع ووجده أهله) لما فيه من التصغير بحق هذه القصة وعدم المبالاة بشأنها، مع لزوم تعظيمها وإجلالها، لأن الله تعالى سماها أحسن القصص، كما لا يجوز أن يقال أنت أو هذه أقصر من سورة الكوثر، أو هذا ما عنده شيء كالسماء والطارق، أو هذا فارغ كفؤاد أم موسى، إلى غير ذلك لما علمت من وجوب الأدب والاحترام لكلام الله، وإن أقصر آية منه لها معان عظيمة يكل أكبر عالم عن الإحاطة بها «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ» وبالغت في الجهد على أن يؤمنوا بك فما هم «بِمُؤْمِنِينَ ١٠٣» بك أنك مرسل من لدنا لأنهم مصرون على الكفر والعناد مهما بالغت بالحرص على إيمانهم، «وَما تَسْئَلُهُمْ» أي كفرة قومك «عَلَيْهِ» على تعليم هذا القرآن أو قبول ما فيه أو الإصغاء لأخباره وأحكامه «مِنْ أَجْرٍ» يثفلهم إعطاؤه ليتهموك بأنك إنما تتلو عليهم لطمع نفسي مادّي مما يكن في صدورهم الخبيثة «إِنْ هُوَ» ما هذا القرآن «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ١٠٤» تذكرهم به مجانا، وتنصحهم وتعظهم لعلهم يرجعون عن عنادهم، فيتذكرون ما ينفعهم ويضرهم، وهذا تسلية لحضرة الرسول ﷺ إذ أنه بعد أن أخبرهم بهذه القصة التي وعدوه أنهم يؤمنوا به إذا

صفحة رقم 264

هو أخبرهم بها كما هي عند أهل الكتاب الذين سألوهم عنها وقد قصها بأوضح من ذلك، فلم تزدهم إلا عتوا ونفورا، قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ» بينة وعبرة ظاهرة دالة على الإله الواحد وصفاته مما هو موجود «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يتفكر بها هؤلاء الكفرة ولا يعتبرون بمبدعها «يَمُرُّونَ عَلَيْها» بأسفارهم، لأن آثار الأمم الماضية وأطلالهم فيها أي الأرض ظاهرة للعيان مشاهدة، وقد بلغهم بالتناقل عن كيفية إهلاك أهلها وهم لا يتعظون بها، أما آيات السماء فهي ملازمة لهم يشاهدونها أيضا كل ليلة ويرون اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب فيها، والانتظام العظيم الذي أبدعه الخالق الذي لا ينخرم قيد شعرة على ممر العصور وكرّها، ومع ذلك فلا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على صانعها، لأن الله تعالى طمس على قلوبهم لما فيها من الخبث وأعمى أبصارهم تبعا لبصائرهم، لذلك يقول تعالى قوله «وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ١٠٥» عن ذلك كله وإعراضهم هذا ليس بأعجب من إعراضهم عنك يا حبيبي، فاصبر عليهم، ولا تجزع من أفعالهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ» بأنه هو الذي خلق هذين الفلكين العظمين وما فيها من أنس وجن ووحش وحوت وطير وديدان، وألهم كلا ما ينفعه ويضره، وقدر أرزاقهم لكل بما يناسبه بحكمة عظيمة، ومع هذا فإن كل من كلف بالإيمان به منهم لا يؤمنون «إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ١٠٦» به غيره من الأوثان، لأنهم يعلمون أن الله تعالى الخالق الرازق ويستغيثون به إذا دهمهم أمر، ومع ذلك يعبدون غيره. قال ابن عباس وغيره إن أهل مكة يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكا وهو لك، تملكه وما ملك! فنزلت هذه الآية، ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول لبيك لا شريك لك يقول له قط قط يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا هو لك إلخ، قيل إن كفار العرب مطلقا، وقيل هم الذين قالوا إن الملائكة بنات الله، والكل
جائز، فكما يجوز نزول آية لأسباب كثيرة يجوز أيضا انطباق أسباب كثيرة على سبب نزول واحد. قال تعالى مهددا لهم «أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ» عقوبة عظيمة مسجّاة محلّلة لا يعلمون ما فيها تشملهم وتغشاهم داهية «مِنْ عَذابِ اللَّهِ»

صفحة رقم 265

فتهلكهم جميعا «أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» على حين غرة وغفلة تفاجئهم من غير سبق علامة أو أمارة فتأخذهم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ١٠٧» بها فيموتون على كفرهم موتة رجل واحد، القائم قائما والقاعد قاعدا، وهكذا بحيث لا يستطيع أحد أن يتغير عن حالته التي هو عليها عند نزول العذاب «قُلْ» يا أكرم الرسل «هذِهِ» الحالة التي أنا عليها من الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء من عند الله والإيمان بالبعث بعد الموت «سَبِيلِي» طريقي ومنهجي «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ» عباده إليها «عَلى بَصِيرَةٍ» معرفة واضحة تميز الحق عن الباطل أسير عليها «أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» وصدق بما جئت به من عند ربي، قال ابن مسعود رضي الله عنه من كان مستنّا فليستنّ بأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم واسلكوا طريقهم فهو الطريق القويم والسبيل المستقيم، كيف وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن، أفضل الناس هداية وأحسنهم طريقة، وقل «وَسُبْحانَ اللَّهِ» أنزهه وأبرئه عن الإشراك «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٠٨» البتة وهذا لما سبق في الدعوة إلى التوحيد واتباع الطريق التي هو عليها وأصحابه ونفي الإشراك، قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» مثلك بالنسبة لأهل مكة ومن حولها. وفي هذه الآية ردّ لقول من قال (لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) الآية ٢٣ من سورة المؤمنين الآتية، وإنما خص أهل القرى في هذه النعمة العظمى لأنهم أكمل عقلا وأفضل علما من أهل البوادي، لأنهم أهل جفاء وقسوة، وأهل المدن أهل لين وعطف غالبا، ولهذا قالوا إن التبدّي مكروه إلا في الفتن، وجاء في الحديث من بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، قال قنادة ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى، أي المدن والأمصار. ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن. وجاء في الخبر من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة. هذا وإن يعقوب عليه السلام تنبأ قبل

صفحة رقم 266

أن ينقل إلى البادية. قال ابن عباس كان يعقوب تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم يوسف وله بها مسجد تحت جبلها، قال جميل وقيل كثير:

وأنت التي حبّبت شعبا إلى بدا إليّ وأوطاني بلاد سواهما
قال ابن الأنباري: بدا اسم موضع معروف، يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان كما ذكر في البيت، وإنما سميت البادية بادية لأن ما فيها يبدو للناظر لعدم وجود ما يواريه، وهي عبارة عن بسيط من الأرض، وما قيل إن هذه الآية أي قوله تعالى (إِلَّا رِجالًا) إلخ، نزلت في سجاع تميمة بنت المنذر التي يقول فيها الشاعر:
أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم على سجاح ومن بالإفك أغرانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت أصداؤه ماء مزن أينما كانا
قول لا صحة له، لأن ادعاءها النبوة كان بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا قرينة تدل على أن هذا من الإخبار بالغيب، وقد أسلمت أخيرا وحسن إسلامها وقصتها مشهورة بالسير والتواريخ، قال في بدء الأمالي:
وما كانت نبيا قط أنثى ولا عبد وشخص ذو افتعال
قال تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الذين كذبوا رسلهم كيف أهلكناهم فيعتبرون بهم فيؤمنون بالله ويتركون هذه الدار الفانية وما فيها لمن اغتر بها من الكفرة المصرين «وَلَدارُ الْآخِرَةِ» الباقية الحسنة «خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» الشرك والمعاصي وعملوا الخير ووحّدوا ربهم «أَفَلا تَعْقِلُونَ ١٠٩» ذلك يا أهل مكة فتتركون ما أنتم عليه وتتبعون ما يأمركم به نبيكم لتفلحوا وتفوزوا.
مطلب في قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من البشر:
قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» وقطعوا أملهم من إيمان قومهم والنصرة عليهم في الدنيا لتماديهم في الكفر مع توالي نعم الله عليهم «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

صفحة رقم 267

قَدْ كُذِبُوا»
قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، أي ظنت أممهم كذبهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم عليهم وإهلاكهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد، أي أن الرسل أيسوا من إيمانهم وأيقنوا أن أممهم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم واستبطئوا النصر عليهم. والقراءتان على البناء للمفعول تدبر هذا، واعلم أن من رجع الظن إلى الأنبياء وأراد به ترجيح أحد الجانبين لا ما يخطر بالبال ويهمس بالقلب في شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية، فقد أخطأ، لأنه لا يجوز على أحد من المسلمين، فكيف يجوز على أعرف الناس بالله وأنه متعال عن خلف الميعاد؟ ويبطل هذا الزعم ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية، قالت بل كذبهم قومهم، فقلت والله لقد استيقنوا بذلك، فقلت لعلهما قد كذبوا أي بالتخفيف، فقالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت فما هذه الآية؟ قالت هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن اتباعهم كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. وقيل أن هذا تكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر. وفي رواية عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة قال قال ابن عباس رضي الله عنهما ذهب لها هنالك وتلا (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) الآية ٢١٤ من سورة البقرة في ج ٣، قال تلقيت عروة ابن الزبير وذكرت له ذلك، فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم، فكانت تقرأها، وظنوا أنهم قد كذبوا، بالتشديد مثفلة، أما ما نقله البعض عن ابن عباس من أنه قال وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر، قال وكانوا بشرا وتلا قوله تعالى (وَزُلْزِلُوا) الآية المارة من البقرة، لا يصح إلا إذا أراد بالظن ما يخطر بالبال وكما ذكرنا آنفا، لأن الأنبياء منزهون عن الظن بربهم

صفحة رقم 268

بخلف الوعد والوعيد، ويجب علينا تطهيرهم وبراءتهم من مثله تنبه، ولا يخفى أن الظن في القرآن بمعنى اليقين كثير، كفوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) إلى يتقون الآية ٤٧ من البقرة في ج ٣، هذا. واعلم، أن الخبر في استيئاس الرسل مطلق إذ ليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا يكونه، وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد رسله بنصر مطلق كما هو الغالب في أخباره لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرا ما يعنقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق جل وعلا، بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما أعتقد طائفة من الصحابة رضوان الله عليهم أخبار النبي صلّى الله عليه وسلم لهم أنهم سيدخلون المسجد الحرام ويطوفون فيه، أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى، فما استيأسوا من ذلك العام إذ صدّهم المشركون، ثم عقد الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله عنه ألم تخبرنا يا رسول الله أن ندخل البيت ونطوف به؟ قال بلى أنا خبرتك أنك تدخله هذا العام؟ قال لا، قال انك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله عنه فبين له أن الوعد منه عليه كان مطلقا غير مقيد بوقت، وكونه صلّى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام وقصد مكة لا يوجب تخصيصا بوعد الله بالدخول في تلك السنة، ولعله إنما سعى بناء على الظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك وليس في شرط النبي أن يكون كل ما قصده واقعا بل من تمام نعمة الله عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى
أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه السلام فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل أي تلقيحه حيث نهاهم عنه أولا، ولمّا لم يأت بالثمر المطلوب سألهم فقالوا لأنا لم نلقحه أي اتّباعا لأمرك فقال إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذون بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله تعالى، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين حينما سلم على رأس الركعتين في صلاة رباعية حيث قال له أقصرت

صفحة رقم 269

الصلاة يا رسول الله؟ فقال ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان، ومنه أيضا في قصة الوليد بن عقبة النازل فيها (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية ٦ من سورة الحجرات في ج ٣ كما سنبينها في محلها وقصة ابن البيرق النازل فيها (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الآية ١١٥ من سورة النساء في ج ٣ أيضا كما سنبيّنها في محلها إن شاء الله، وفي هذا كفاية في العلم بأنه صلّى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، لأنه بشر ويجوز عليه ما يجوز على البشر، فإذا كان خاتم الرسل وأفضلهم هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام؟ ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء أجمعوا على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك، لكن لا يقرون عليه، فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس في الأحكام الشرعية من شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال أن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له، فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة، فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم، وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا، فلا محذور، وأنت عليم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول ما يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم كما جاء في حديث عائشة المتقدم وشرحه لابن الزبير، لأن ما جاء به في الردّ والتأويل في غاية الحسن منها رضي الله عنها وعن أبيها والله أعلم. قال تعالى «جاءَهُمْ نَصْرُنا» الذي وعدناهم به فجأة من غير احتساب ولا ترقب «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ» من العذاب الواقع أي نجّى النبيّ ومن آمن معه ومن شملته إرادة الله وقرأ بعضهم فنجّي بالتشديد ونون العظمة بالباء على الفاعل وقريء بتشديد الجيم وسكون الياء، وهي خطأ إذ لا يجوز إدغام النون بالجيم، والقراءة الصحيحة هي ما عليه المصاحف بالبناء للمفعول «وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا» عذابنا بالإهلاك «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ١١٠» إذا نزل بهم البتة وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمعاصري حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنهم إذا

صفحة رقم 270
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية