
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ... (١٠١)
ابتدأ النداء الضارع بقوله: (ربِّ) أي

منشئي والمنعم عليَّ بالوجود والإنسانية والمسرة في الشدة، والنجاة من كل ألم بفضلك وعنايتك.
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)، (قَدْ) هنا للتحقيق، وقال: (مِنَ الْمُلْكِ) ولم يقل الملك، لأن الملك كله لمالك الملك ذي الجلال والإكرام، والطول والإنعام، فما يملك الحاكمون ليس إلا ذرة من ملكه سبحانه، وهو ليس من جنسه، بل من جنس آخر، وهو ما يكون للعبيد في هذه ومتاعها، وهو قليل بجوار متاع الآخرة.
(وعَلَّمتَنِي من تَأْوِيلِ الأَحَاديث)، أي من معرفة مآل الأحاديث سواء أكانت رؤيا في المنام أم كانت أحاديث الناس فمعرفة أحاديث الناس، شعوبا ودولا وجماعات، من علم سياسة الدولة، وكيف يُدبَّر أمرها، وقال عليه السلام: ، (مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، أي علمه بعضها، لَا كلها، وفوق كل ذي علم عليم، فما علم كل سياسة الحكم، ومعاملة الناس، وما علم كل تأويل الرؤى، ولكن علم بعضه، وذلك من تواضع العلماء، أمام العلم العام.
ثم نادى ربه بأنه خالق الكون كله وانتقل من نعمته عليه إلى نعمته على الكون كله، فقال: (فَاطِرَ السًمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي مبدعهما على غير مثال مسبق فهو بديع السماوات والأرض.
ثم أعطاه الولاية كلها، أو اعترف بالولاية كلها، فقال: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، أي أنت ناصري ومتولي أمرى في الدنيا والآخرة، توليتني
بحمايتك ورحمتك في الدنيا، فتولني بها في الآخرة، ثم قال ضارعا لربه، (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، توفني إليك مخلصا الدين لك أنت وحدك، واجعلني في الصالحين من الصديقين والشهداء ومن ارتضيتهم يا رب العالمين.
* * *

الاعتبار والاستدلال
قال تعالى:
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
* * *
هذه قصة نبي اللَّه يوسف عليه السلام كان القطب الذي دارت عليه القصة تلك الشخصية العالية، التي تغلبت عليها، وقد بينا أنها ليست قصة غرام، كما توهم ذلك بعض الذين خرجوا عن الإسلام بهذا الوهم الذي توهموا وبنوا عليه ما كفروا به، فقد حققنا أن ما يتعلق بغرام امرأة العزيز به عليه السلام، واستعصامه بأمر اللَّه ونهيه لَا يتجاوز ثماني آيات، كانت فيها المفاضلة بين الفضيلة والرذيلة، وإذا أضيف إليها إقرارها بأنها راودته عن نفسه تكون تسع آيات من إحدى عشرة آية.
وإن القصة - كما رأيت - صورت لك الغلام ينتقل من عز الأبوة الحرة الكريمة إلى الرق، ثم من الرق والسجن ينتقل تحت عين اللَّه تعالى وبصره إلى ملك مصر الذي كان يملكه فرعون وأصلح يوسف في الأرض، ونمى الخير،) ودبر به أمر البلاد، ولم يقل أنا ربكم الأعلى، بل قال أنا عبد اللَّه، ولم يقل مفاخرا

(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، بل قال شاكرا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أنت لطيف لما تشاء، وإذا كانت مصر قد اشتهرت بحكم الفراعنة والاستبداد، فقد جاء حكم يوسف حكما صالحا، ليثبت اللَّه أن الإصلاح زرع طيب يربي النفوس، ويقوي العزائم حتى في أرض فرعون الذي طغى وبغى وأكثر فيها الفساد.
والسورة فوق ذلك تصور كثرة أسباب الرق وفوضاه، وتصور أسباب السجن ومظالمه، وتصور الحال الاقتصادية في مصر، والبلاد التي تجاورها، وكيف كانت مصدر الرفد لمن حولها، وغير ذلك مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)، الذين يبحثون عن حقائق الأمور ومآلاتها.
يقول تعالى: