
٤- عدّد يوسف عليه السّلام بعض النّعم عليه وعلى آله، منها الخروج من السّجن، ومجيء أهله من البادية في أرض كنعان، واللطف أو الرّفق الإلهي بالعباد حيث جمع الأسرة هذا الجمع الكريم الحافل السّارّ، بعد إيقاع الشّيطان الحسد بينه وبين إخوته، وتمّ ذلك كلّه بفعل الله تعالى وفضله.
٥- تحققت رؤيا يوسف الّتي رآها في عهد الصّغر، واختلف العلماء في مقدار المدة بين تحقق الرؤيا وبين حدوثها، فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون: إن تأويل الرؤيا إنّما صحّت بعد أربعين سنة.
٦- إذا أراد الله تعالى شيئا هيّأ أسبابه ويسّرها، فحصول الاجتماع بين يوسف عليه السّلام وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة، وطيب العيش، وفراغ البال، كان في غاية البعد، إلا أنه تعالى لطيف بعباده، لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، وحكيم محكم في فعله، حاكم في قضائه، حكيم في أفعاله، مبرّأ عن العبث والباطل.
الفصل الثامن عشر من قصّة يوسف دعاء جامع يتضمّن تحدّث يوسف بنعم الله عليه وطلبه من ربّه حسن الخاتمة
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)

الإعراب:
فاطِرَ السَّماواتِ.. منصوب على أنه صفة المنادي أو منادى مستقل.
المفردات اللغوية:
مِنَ الْمُلْكِ بعض الملك وهو ملك مصر. وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تأويل الكتب الإلهيّة، وتعبير الرؤيا، ومِنَ أيضا للتّبعيض لأنه لم يؤت كلّ التّأويل. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري أو متولّي أمري أو منعم عليّ.
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي، أو بعامة الصالحين في الرّتبة، فعاش بعد ذلك أسبوعا أو أكثر، ومات وله مائة وعشرون سنة، أو مائة وسبعة أعوام.
فتنازع المصريون في مدفنه، فجعلوه في صندوق من مرمر، ودفنوه في أعلى النّيل، لتعمّ البركة جانبيه، ثم نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه في فلسطين. أما يعقوب عليه السّلام فأقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة، ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه، فذهب به، ودفنه ثمّة، وعاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة.
المناسبة:
بعد أن حمد يوسف عليه السّلام ربّه على لطفه ونعمه، باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منّ الله به عليه من النّبوة والملك، دعا هذا الدّعاء، وسأل ربّه عزّ وجلّ، كما أتمّ نعمته عليه في الدّنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة، وأن يتوفّاه مسلما، وأن يلحقه بالصّالحين.
التفسير والبيان:
قال يوسف بعد اجتماعه بأبويه وإخوته: ربّ قد أعطيتني ملك مصر، وجعلتني حاكما مطلق التّصرف فيها دون منازع ولا معارض ولا حاسد. روي أن يوسف عليه السّلام أخذ بيد يعقوب عليه السّلام، وطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الذهب والفضة، وخزائن الحلي، وخزائن الثياب، وخزائن السّلاح، فلما أدخله خزائن القراطيس، قال: يا بني ما أغفلك! عندك هذه

القراطيس، وما كتبت إليّ على ثمان مراحل، قال: نهاني جبريل عليه السّلام عنه، قال: سله عن السّبب، قال: أنت أبسط إليه، فسأله، فقال جبريل عليه السّلام: أمرني الله تعالى بذلك، لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فهلا خفتني؟! وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي الكتب السّماوية وأسرار كلامك، وتعبير الرؤيا ومصداقيتها، فتقع كما ذكرت.
ومِنَ في قوله: مِنَ الْمُلْكِ، ومِنْ تَأْوِيلِ.. للتّبعيض، لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدّنيا وهو ملك مصر، وبعض التّأويل.
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنت خالق السّموات والأرض ومبدعهما.
أَنْتَ وَلِيِّي.. أنت ناصري ومتولّي أموري وشأني كلّه في الدّنيا والآخرة، فإن نعمك غمرتني في الدّنيا، وأملي فيها في الآخرة.
تَوَفَّنِي مُسْلِماً أمتني على الإسلام منقادا خاضعا طائعا أوامرك. قال ابن عباس: «ما تمنّى نبيّ قط الموت قبل يوسف عليه السّلام».
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ اجعلني ملحقا بالأنبياء والمرسلين، على العموم، وبآبائه على الخصوص وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر، ودفن في النّيل في صندوق من رخام، ثم نقل موسى عليه السّلام تابوته بعد أربع مائة سنة إلى بيت المقدس، فدفن مع آبائه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى أن سيرة الأنبياء عليهم السّلام مثل أعلى في القدوة، فإن نعم الله تعالى على يوسف عليه السّلام في الدّنيا من إيتاء الملك وتعبير الرؤيا، لم تحجبه عن طلب مرضاة الله تعالى في الآخرة، لأن العبرة بحسن الخاتمة،