
الذين أهلكوا بالخسف والرجم بالحجارة «مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ٩٠» لقرب عهد إهلاكهم منكم وهم جيرانكم بالسكن، وقد حل بهم ما لم يحل بغيرهم، كما أن جرمهم لم يقترفه غيرهم، فاتعظوابهم «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» تقدم مثله «إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ» بعباده إذا تابوا وأنابوا «وَدُودٌ ٩٠» بهم كثير الرأفة والمحبة لإيمانهم به ليكونوا قريبين منه
«قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» لأن الله أصمهم وأعمى أبصارهم عن سماع الحق ورؤيته، وإلا فهل يوجد أنصح كلاما مما خاطبهم به وأبلغ معنى في النفس، وهو أحسن الخلق مراجعة إلى قومه، ولكن قولهم هذا والعياذ بالله من الطبع على القلب والختم على الفؤاد، ومن يضلل الله فما له من هاد، وانظر لسخافة قولهم «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» يتعذر عليك منعنا مما نحن عليه لكبر سنك وضعف بصرك، وإذا أردنا أن نوقع فيك مكروها فلا تقدر على صدنا منه ولكنّا نحترمك لأجل عشيرتك ولم يقولوا لله الذي أرسلك، قاتلهم الله، لأنهم ينظرون إلى ظاهر الدنيا، وهو عليه السلام كان قويا في عشيرته ولهذا قالوا «وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» بالحجارة حتى تموت «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ٩٢» بعد أن أهنتنا وأهنت ديننا فلا نحترمك ولا نكرمك، وقتلك علينا هين، وما قيل إن المراد بعزيز كونه أعمى لا يصح في المعنى، ونحن ذكرنا في قصته في الآية ٨٥ من سورة الأعراف المارة في ج ١ أن القول بعماه لا صحة له، لأن الله لم يبعث نبيا أعمى ولا من به زمانة، ولهذا البحث صلة في الآية ٨٤ من سورة يوسف الآتية «قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي» جماعتي وعشيرتي «أَعَزُّ عَلَيْكُمْ» أهيب وأمنع «مِنَ اللَّهِ» فتكرموني لعزّتهم ولا تكرموني لأجل الله الذي خلقكم ورزقكم «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» كالشيء الملقى إلى الوراء مثل قدح الراكب، لا تلتفتوا إليه إلا عند الحاجة «إِنَّ رَبِّي» الذي نبذتموه خلفكم ونسيتموه «بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٩٣» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم الظاهرة والباطنة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم، لأنهم راعوا جانب الرهط ولم يراعوا جناب الله، ولم يعلموا أنه سيعاقبهم على ذلك، ثم أكّد التهديد بوعيد أشدّ منه فقال «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ»

وقدرتكم مما تنوونه لي من الشر من كل ما تتمكنون عليه «إِنِّي عامِلٌ» ما أتمكن عليه بقدر ما يؤيدني به الله من النصر ويمكنني من القدرة، فابذلوا أنتم غاية جهدكم في شقاقي وأقصى طاقتكم في عدواني وإني لا أزال أثابر على عمل الخير لكم وترغيبكم لطاعته لعلكم تتنبهون فترجعون إليه، وإن أصررتم فمصيركم إليه يوم القيامة وهناك «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» أنا أم أنتم «وَارْتَقِبُوا» نزول العذاب بكم فقد قرب أوانه «إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ٩٤» لنزوله منتظر عاقبة أمركم وما يحل بكم من الذلة والإهانة مترقب نتيجة وعيدي لكم ونصرتي عليكم، قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» المحتوم المقدر لنزول العذاب فيهم وانتهى أمد إمهالهم للإيمان «نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» وفضل، لأن عادتنا إنجاء المؤمنين ونصرتهم «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من أحد ملائكة الله العظام جبريل أو غيره كإسرافيل وميكائيل لأن هؤلاء هم الموكلون بتنفيذ مهام الأمور وعظائمها بأمر الله تعالى «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ٩٥» على ركبهم من هول سماعها، فماتوا جميعا حالة كونهم لا طين في الأرض ملازمين لها في أمكنتهم التي كانوا عليها حين الصيحة، لأنها أماتتهم حالّا بحيث لم يتحرك أحد من مكانه لهول الصيحة «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» في قرية مدين ولم يسكنوها ولم يعمروها وصاروا نسيا منسيا.
فتنبهوا أيها الكفرة وسارعوا بالتوبة إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حلّ بهم «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ» قوم شعيب وسحقا لهم «كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ٩٦» قوم صالح لأنهم أهلكوا بالصيحة أيضا مثلهم ولم تعذب أمتان بعذاب واحد غيرهما إلا أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب من فوقهم، وما قيل إن الصيحة نوع من العذاب، لأن العرب تقول صاح بهم الزمان إذا هلكوا، مستدلين بقول امرئ القيس:
فدع نهبا صيح في حجرته | ولكن حديث ما حديث الرواحل |

ج ١، وبعدت قرئت بضم العين كما في الآية، وقرئت بالكسر، وعليه قوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني | وأين مكان البعد إلا مكانيا |