آيات من القرآن الكريم

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ بِبَعِيدِينَ؟
أَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيدو الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى فِي قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ وَكَثِيرٍ وَقَلِيلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لِوُرُودِهَا عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ الَّتِي هِيَ الصَّهِيلُ وَالنَّهِيقُ وَنَحْوُهُمَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عَنِ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ وَدُودٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: الْوَدُودُ فِي أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى الْمُحِبُّ لِعِبَادِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَدِدْتُ الرَّجُلَ أَوَدُّهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي «كِتَابِ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِكَثْرَةِ إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي رَاعَاهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ ظُهُورَ الْبَيِّنَةِ لَهُ وَكَثْرَةَ إِنْعَامِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَمْنَعُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَيَصُدُّهُ عَنِ التَّهَاوُنِ فِي تَكَالِيفِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ هُوَ بِهَا مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا رَشِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ صِحَّتَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِتَحْصِيلِ مُوجِبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِخْفَاءِ مُوجِبَاتِ الْفِتَنِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ بَاطِلَةً لَمَا اشْتَغَلَ بِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ صِحَّةَ طَرِيقَتِهِ أَشَارَ إِلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْمِلَكُمْ عَدَاوَتِي عَلَى مَذْهَبٍ وَدِينٍ تَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا وَقَعَ فِيهِ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا صَحَّحَ مَذْهَبَ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْمَنْعُ مِنَ الْبَخْسِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَدُودٌ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ وَحُبَّهُ لَهُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي غَايَةِ الكمال.
[سورة هود (١١) : آية ٩١]
قالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)
اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَالَغَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ، أَجَابُوهُ بِكَلِمَاتٍ فَاسِدَةٍ. فالأول: قولهم: يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِمْ، فَلِمَ قَالُوا: مَا نَفْقَهُ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْجَوَابَاتِ: فَالْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ: مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، لِأَنَّهُمْ/ كَانُوا لَا يُلْقُونَ إِلَيْهِ أَفْهَامَهُمْ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ كَلَامِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٥] الثَّانِي: أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لَهُ وَزْنًا، فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهَانَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذْ لَمْ يَعْبَأْ بِحَدِيثِهِ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا مَا أَقْنَعَتْهُمْ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَرْكِ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ، فَقَوْلُهُمْ: مَا نَفْقَهُ أَيْ لَمْ نَعْرِفْ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ.

صفحة رقم 390
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية