آيات من القرآن الكريم

وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ

لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ يَعْنِي الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَخَذْنَاهَا مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا كَيْفَ نَتْرُكُهَا، وَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَفْظِ الصلاة وهاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَظْهَرُ شِعَارِ الدِّينِ فَجَعَلُوا ذِكْرَ الصَّلَاةِ كِنَايَةً عَنِ الدِّينِ، أَوْ نَقُولُ: الصَّلَاةُ أَصْلُهَا مِنَ الِاتِّبَاعِ وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي مِنَ الْخَيْلِ الَّذِي يَتْلُو السَّابِقَ لِأَنَّ رَأْسَهُ يَكُونُ عَلَى صِلْوَيِ السَّابِقِ وَهُمَا نَاحِيَتَا الْفَخِذَيْنِ وَالْمُرَادُ: دِينُكَ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمَخْصُوصَةُ،
رُوِيَ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَكَانَ قَوْمُهُ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي تَغَامَزُوا وَتَضَاحَكُوا،
فَقَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ السُّخْرِيَةَ وَالْهَزْءَ، وَكَمَا أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ مَعْتُوهًا يُطَالِعُ كُتُبًا ثُمَّ يَذْكُرُ كَلَامًا فَاسِدًا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مِنْ مُطَالَعَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ والسخرية فكذا هاهنا.
فَإِنْ قِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ وَهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ ما يشاؤن، فَكَيْفَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ.
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَأَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَالثَّانِي: أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ آمِرَةً وَنَاهِيَةً وَالتَّقْدِيرُ: أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ بِأَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَتَنْهَاكَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَوْ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا تَشَاءُ بِتَاءِ الْخِطَابِ فِيهِمَا وَهُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ وَالِاقْتِنَاعِ بِالْحَلَالِ الْقَلِيلِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْحَرَامِ الْكَثِيرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّكَ لَأَنْتَ السَّفِيهُ الْجَاهِلُ إِلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْبَخِيلِ الْخَسِيسِ لَوْ رَآكَ حَاتِمٌ لَسَجَدَ لَكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّكَ مَوْصُوفٌ عِنْدَ نَفْسِكَ وَعِنْدَ قَوْمِكَ بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَةِ طَرِيقَتِهِمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ الْمَعْرُوفُ الطَّرِيقَةَ فِي هَذَا الْبَابِ، فَكَيْفَ تَنْهَانَا عَنْ دِينٍ أَلْفَيْنَاهُ مِنْ آبَائِنَا وَأَسْلَافِنَا، وَالْمَقْصُودُ اسْتِبْعَادُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَهَذَا الْوَجْهُ أصوب الوجوه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تعالى حكى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِهِمْ

صفحة رقم 387

فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ وَالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إِشَارَةٌ إِلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَانِي جَمِيعَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَالسَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَهِيَ الْمَالُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِهِ وَأَنْ أُخَالِفَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ شَدِيدُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ حِلْمِكَ وَرُشْدِكَ أَنْ تَنْهَانَا عَنْ دِينِ آبَائِنَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى عِنْدِي كَثِيرَةٌ وَهُوَ أَمَرَنِي بِهَذَا التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِي مَعَ كَثْرَةِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه وَالِاشْتِغَالَ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ عَمَلٌ مُنْكَرٌ، ثُمَّ أَنَا رَجُلٌ أُرِيدُ إِصْلَاحَ أَحْوَالِكُمْ وَلَا أَحْتَاجُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى آتَانِي رِزْقًا حَسَنًا فَهَلْ يَسَعُنِي مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَنْ أَخُونَ فِي وَحْيِ اللَّه تَعَالَى وَفِي حُكْمِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ وَقَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَلَا جُعْلًا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قولهم: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى وَبِإِعَانَتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِعْزَازَ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَالْإِذْلَالَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَأَنَا لَا أُبَالِي بِمُخَالَفَتِكُمْ وَلَا أَفْرَحُ بِمُوَافَقَتِكُمْ، وَإِنَّمَا أَكُونُ عَلَى تَقْرِيرِ دِينِ اللَّه تَعَالَى وَإِيضَاحِ شَرَائِعِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُقَالُ خَالَفَنِي فُلَانٌ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ وَخَالَفَنِي عَنْهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاكَ الرَّجُلُ صَادِرًا عَنِ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ. فَيَقُولُ: خَالَفَنِي إِلَى الْمَاءِ، يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ يَعْنِي أَنْ أَسْبِقَكُمْ إِلَى شَهَوَاتِكُمُ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لِأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ فَهَذَا بَيَانُ اللُّغَةِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ حَلِيمٌ رَشِيدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ، وَكَمَالُ الْعَقْلِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الطَّرِيقِ الْأَصْوَبِ الْأَصْلَحِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ لَمَّا اعْتَرَفْتُمْ بِكَمَالِ عَقْلِي فَاعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ عَقْلِي لِنَفْسِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَصْوَبَ الطُّرُقِ وَأَصْلَحَهَا وَالدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّه تَعَالَى وَتَرْكُ الْبَخْسِ وَالنُّقْصَانِ يَرْجِعُ حَاصِلُهُمَا إِلَى جُزْأَيْنِ، التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَا مُوَاظِبٌ عَلَيْهِمَا غَيْرُ تَارِكٍ لَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَلْبَتَّةَ فَلَمَّا اعْتَرَفْتُمْ لِي بِالْحِلْمِ وَالرُّشْدِ وَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أَتْرُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ خَيْرُ الطُّرُقِ، وَأَشْرَفُ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَالْمَعْنَى مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَكُمْ بِمَوْعِظَتِي وَنَصِيحَتِي، وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَطَعْتُ فِيهِ وُجُوهٌ: الأول:

صفحة رقم 388

أَنَّهُ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ: مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِي لِلْإِصْلَاحِ وَمَا دُمْتُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ لَا آلُو فِيهِ جُهْدًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ مَا أُرِيدُ إِلَّا أَنْ أُصْلِحَ مَا اسْتَطَعْتُ إِصْلَاحَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ أَقَرُّوا بأنه حليم رشيد، وإما أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ مِنْ حَالِي أَنِّي لَا أَسْعَى إِلَّا فِي الْإِصْلَاحِ وَإِزَالَةِ الْفَسَادِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَمَّا أَمَرْتُكُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ إِيذَاءِ النَّاسِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ دِينُ حَقٍّ وَأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضِي مِنْهُ إِيقَاعَ الْخُصُومَةِ وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ أَنِّي أَبْغَضُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ وَلَا أَدُورُ إِلَّا عَلَى مَا يُوجِبُ الصُّلْحَ وَالصَّلَاحَ بِقَدْرِ طَاقَتِي، وَذَلِكَ هُوَ الْإِبْلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، وَأَمَّا الْإِجْبَارُ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ تَوَكُّلَهُ وَاعْتِمَادَهُ فِي تَنْفِيذِ كُلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوَكَّلْتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَكَيْفَ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَانٍ بِذَاتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، وَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ لِلْخَلْقِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى
وَعَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ»
لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَرَمَ مِثْلُ كَسَبَ فِي تَعْدِيَتِهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأُخْرَى إِلَى مَفْعُولَيْنِ يُقَالُ جَرَمَ ذَنْبًا وَكَسَبَهُ وَجَرَّمَهُ ذَنْبًا وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ أَيْ لَا يُكْسِبَنَّكُمْ شِقَاقِي إِصَابَةَ الْعَذَابِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا إِذَا جَعَلْتَهُ جَارِمًا لَهُ أَيْ كَاسِبًا لَهُ.
وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ جَرَمَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَرَمْتُهُ ذَنْبًا وَأَجْرَمْتُهُ إِيَّاهُ، وَالْقِرَاءَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي الْمَعْنَى لَا تَفَاوُتَ بَيْنِهِمَا إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَةَ أَفْصَحُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ كَسَّبَهُ مَالًا أَفْصَحُ مَنْ أَكْسَبَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ لَا تُكْسِبَنَّكُمْ مُعَادَاتُكُمْ إِيَّايَ أي يُصِيبَكُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ مَا حَصَلَ لِقَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَرَقِ، وَلِقَوْمِ هُودٍ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ وَلِقَوْمِ صَالِحٍ مِنَ الرَّجْفَةِ، وَلِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْخَسْفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الْمَكَانِ لِأَنَّ بِلَادَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَدْيَنَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبُعْدِ فِي الزَّمَانِ لِأَنَّ إِهْلَاكَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْرَبُ الْإِهْلَاكَاتِ الَّتِي عَرَفَهَا النَّاسُ فِي زَمَانِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَإِنَّ الْقُرْبَ فِي الْمَكَانِ وَفِي الزَّمَانِ يُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْرِفَةِ وَكَمَالَ الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْوَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ اعْتَبِرُوا بِأَحْوَالِهِمْ وَاحْذَرُوا مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمُنَازَعَتِهِ حَتَّى لَا يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَذَابِ.

صفحة رقم 389
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية