آيات من القرآن الكريم

وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له، وقد ذكرت الآيات مرورهم

صفحة رقم 22

على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار، وهي القصة الخامسة، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين، وقصة موسى مع فرعون، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات.
اللغَة: ﴿الروع﴾ الخوف والفزع ﴿مُّنِيبٌ﴾ الإِنابة: الرجوع والتوبة ﴿عَصِيبٌ﴾ شديد في الشر قال الشاعر:

وإِنك إلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب
﴿يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون قال الفراء: الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب ﴿تُخْزُونِ﴾ أخزاه: أهانه وأذله قال حسان:
فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق
﴿سِجِّيلٍ﴾ السّجيل والسّجين: الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة، وقال الفراء: طينٌ طبخ حتى صار كالآجر ﴿مَّنْضُودٍ﴾ متتابع بعضه فوق بعض في النزول ﴿مُّسَوَّمَةً﴾ معلَّمة من السِما وهي العلامة ﴿شقاقي﴾ الشقاق: العداوة قال الشاعر:
ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً فكيف وجدتم طعم الشقاق
﴿رَهْطُكَ﴾ رهط الرجل: عشيرته التي يتقوى بهم ﴿الورد﴾ المدخل ﴿الرفد﴾ العطاء والإِعانة.
التفِسير: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾ أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ أي جاءته البشارة بالولد ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون: لما قالت الملائكة: ﴿إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية﴾ [العنكبوت: ٣١] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فقال لهم ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ [العنكبوت: ٣٢] ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه ﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله ﴿ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ﴾ أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم ﴿إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾ أي جاء أمر الله بإِهلاكهم ﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ﴾ أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار ﴿وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي شديد في الشر ﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم

صفحة رقم 23

إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه ﴿قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية ﴿فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟ ﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب.
وليس لنا رغبة فيهن ﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب «لو» محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث «رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد» يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار ﴿قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ﴾ أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك﴾ أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ﴾ أي إنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح﴾ أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ ﴿أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ﴾ استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى
﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: ٣٧] ثم إن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ أي فلما

صفحة رقم 24

جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها ﴿مَّنْضُودٍ﴾ أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض ﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾ دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾ أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك «كفار قريش» فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف ب «البحر الميت» لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم «بحيرة لوط» والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال «أخاهم» ﴿قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن ﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أي إني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم ﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة ﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾ أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد ﴿بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر ﴿قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إن هذا لا يصدر عن عاقل ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان.
قال الإمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله ﴿مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ إِشارة إِلى التوحيد، ﴿نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا﴾ إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم ﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ أي

صفحة رقم 25

إنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت﴾ أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم أمركم بقدر استطاعتي ﴿وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله﴾ أي ليس التوفيق إلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة ﴿وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي﴾ أي لا يكسبنكم عداوتي ﴿أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟ ﴿واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب ﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾ أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك ﴿قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله﴾ ؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه ﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها ﴿وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ﴾ تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا

صفحة رقم 26

على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ أي وتعلمون من هو الكاذب ﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم ﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير: وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك ﴿أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزات قاهرة، وبينات قاهرة، كالعصا واليد ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي إلى فرعون وأشراف قومه ﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة﴾ أي يتقدم أمامهم إلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ أي أدخلهم نار جهنم ﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾ أي بئس المدخل المدخول هي.
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً﴾ أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا ﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة ﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾ أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿ذَهَبَ الرَّوْعُ.. وَجَآءَتْهُ﴾ بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾ كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم.
٣ - ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ الاستفهام للتعجب والتوبيخ.
٤ - ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ قال الشريف الرضي: وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته جعلهم ركناً له لأن الإنسان يلجأ إِلى قبيلته، ويستند إلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين، وجاء جواب «لو» محذوفاً تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال.
٥ - ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ بينهما طباقٌ.

صفحة رقم 27

٦ - ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار العذاب يكون فيه، فهو إِسنادٌ للزمان.
٧ - ﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به.
٨ - ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه، فتشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورد، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله ﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾ تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد، نعوذ بالله من جهنم.

صفحة رقم 28
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية