
والبيت في قصيدة نونية: سجينا، وقالت فرقة: سِجِّيلٍ لفظة أصلها غير عربت أصلها سنج وكل. وقيل غير هذا في أصل اللفظة. ومعنى هذا اللفظ ماء وطين. هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وغيرهم، وذهبت هذه الفرقة إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ كانت من طين قد تحجر- نص عليه الحسن-.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يشبه. وهو الصواب الذي عليه الجمهور. وقالت فرقة: معنى سِجِّيلٍ حجر مخلوط بطين أي حجر وطين. قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن يرد هذا إلى الذي قبله، لأن الآجر وما جرى مجراه يمكن أن يقال فيه حجر وطين لأنه قد أخذ من كل واحد منهما بحظه. هي طين من حيث هو أصلها. وحجر من حيث صلبت.
ومَنْضُودٍ معناه بعضه فوق بعض. أي تتابع وهي صفة ل سِجِّيلٍ وقال الربيع بن أنس:
«نضده» : إنه في السماء منضود معد بعضه فوق بعض.
ومُسَوَّمَةً معناه معلمة بعلامة، فقال عكرمة وقتادة: إنه كان فيها بياض وحمرة: ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم، ومنه قول النبي ﷺ يوم بدر: «سوموا فقد سومت الملائكة». ويحتمل أن تكون مُسَوَّمَةً هاهنا بمعنى: مرسلة، وسومها من الهبوط.
وقوله وَما هِيَ إشارة إلى الحجارة. والظَّالِمِينَ قيل: يعني قريشا. وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي ﷺ أنه قال: «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة»، وقد ورد أيضا حديث: «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك». وقيل يعني ب هِيَ: المدن، ويكون المعنى: الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة- والأول أبين- وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن: صيعة، وصعدة وعمزة، ودوما وسدوم وهي القرية العظمى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
التقدير: وَإِلى مَدْيَنَ أرسلنا أَخاهُمْ شُعَيْباً، واختلف في لفظة مَدْيَنَ فقيل: هي بقعة، فالتقدير على هذا: وإلى أهل مدين- كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يونس: ٤٢]- وقيل كان هذا القطر في

ناحية الشام، وقيل مَدْيَنَ اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه، ومَدْيَنَ لا ينصرف في الوجهين، حكى النقاش أن مَدْيَنَ هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد وقد قيل: إن شُعَيْباً عربي، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط، ودعاء «شعيب» إلى «عبادة الله» يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك بين من قولهم فيما بعد، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافيا ويعطوا ناقصا في وزنهم وكيلهم، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضا.
وقوله بِخَيْرٍ قال ابن عباس: معناه في رخص من الأسعار، و «عذاب اليوم المحيط» هو حلول الغلاء المهلك. وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق وقيل لهم قوله: بِخَيْرٍ عام في جميع نعم الله تعالى، و «عذاب اليوم» هو الهلاك الذي حل بهم في آخر، وجميع ما قيل في لفظ «خير» منحصر فيما قلناه.
ووصف «اليوم» ب «الإحاطة» وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم: وقد يصح أن يوصف «اليوم» ب «الإحاطة» على تقدير: محيط شره. ونحو هذا.
وكرر عليهم الوصية في «الكيل والوزن» تأكيدا وبيانا وعظة لأن لا تَنْقُصُوا هو أَوْفُوا بعينه.
لكنهما منحيان إلى معنى واحد.
قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه، أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يعظ الناس في الكيل والوزن فقال: اعتبروا في أن الإنسان إذا رفع يده بالميزان فامتدت أصابعه الثلاث والتقى الإبهام والسبابة على ناصية الميزان جاء من شكل أصابعه صورة المكتوبة فكأن الميزان يقول: الله الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وعظ مليح مذكر. والقسط العدل ونحوه، و «البخس» النقصان، وتَعْثَوْا معناه: تسعون في فساد، وكرر مُفْسِدِينَ على جهة التأكيد، يقال عثا يعثو أو عثى يعثي، وعث يعث، وعاث يعيث- إذا أفسد ونحوه من المعنى، والعثة: الدودة التي تفسد ثياب الصوف.
وقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ قال ابن عباس معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن حير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد: معناه طاعة الله، وقال ابن عباس- أيضا- معناه رزق الله، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية، وإنما المعنى عندي- إبقاء الله عليكم إن أطعتم.
وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة.