
التفصيل فلم يوجد إلا في القرآن ولم يرد ذكرها على هذا الوضوح إلا به، ولأن حضرة الرسول أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعلم ما في الكتب القديمة، وكذلك قومه جلّهم أمّيّون، ومنهم من لم يسمع بها أيضا، لأن الجهالة باختيار الأمم السابقة وكيفية إهلاكهم غالبة عليهم، فاندفع ما يقال وأخرس القائل. «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل أنت ومن معك من المؤمنين على أذى قومك وتحمل جفاهم حتى يأتي وعد الله، كما أن نوحا ومن بعده من الأنبياء صبروا حتى جاءهم وعد الله «إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ٤٩» ربهم الصابرين على ما يخبرهم به، فيكون لهم النصر والفوز، قال تعالى «وَإِلى عادٍ» أرسلنا «أَخاهُمْ هُوداً» في النسب، لانه منهم لا في الدين الذي نسبه أقرب ولا في الهوى الذي هو تبع لما جاء به حضرة الرسول القائل (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وأشار إليه ابن الفارض رحمه الله بقوله فيه:
كم نسب في الهوى بيننا | أقرب من نسب من أبوي |
«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي النصح الذي أسديه لكم وما أبلغه إليكم من رسالة ربي التي فيها هديكم وصلاحكم للخير وخلاصكم من الشر «أَجْراً» جعلا ولا أجرة آخذها منكم لقاءه، لتظنوا أن لي فيكم طمعا ما «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني فهو الذي يرزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ ٥١» وعظي وتأخذون بقولي الذي أبذله لكم مجانا، وهل شيء أنفى للتهمة من هذا فكيف لا تقبلون رشدي؟ واعلم أنه ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم الرشد والنصح، وأن مما يمحضها للقبول هو حسم الطمع. وما دام الرسول لا يريد ولا يتوقع شيئا من هداه المادة يجب أن يركن إليه ويجاب دعاؤه، وإذا كان الناصح يجنح إلى المادة أو يتوهم منه طلبها من المنصوح له لا ينجح بدعوته ولا تنفع هدايته «وَيا قَوْمِ صفحة رقم 128

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ»
مما أنتم عليه من الكفر وآمنوا به وحده «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» من الشرك ودواعيه، واخضعوا لعظمته وأنيبوا إليه «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» تباعا المرة بعد المرة، أي ينزل عليكم ماءها، إذ تطلق عليه لأنه نازل منها بالنسبة لما نرى وقيل في هذا المعنى:
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا |
طريد عشيرة ورهين ذنب | بما جرمت يدي وجنى لساني |

أنتم وشركاؤكم «ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ٥٥» ولا تمهلوني لحظة واحدة إن صح قولكم إن لآلهتكم قدرة على إضرار من ينالها بسوء أو يصد عن عبادتها، وقد صارحتكم وأشهدتكم وتحديتكم فلا تتسامحوا معي مثقال ذرة، وهذا الحزم والعزم البالغان الغاية القصوى من معجزاته ﷺ لأنه كان وحيدا فيهم ولم يهبهم على ما هم عليه من الجبروت لما هو عليه من الثقة بالله، ثم كر عليهم بالتحدي فقال «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» بقصد التعريض بهم والتقريع بأوثانهم التي يزعمونها آلهة بأنها ليست برب لهم ولا يتوكل عليها وإن ربهم ورب شركائهم هو الله ربه ورب كل شيء «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» مالكها وقاهرها وميسرها لما خلقت له وفاقا لسابق علمه بها، لأن من أخذت بشعر مقدم رأسه فقد قهرته والناصية هي مقدم الرأس، وأطلق على الشعر النابت فيها للمجاورة، وإنما خصها بالذكر لأن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذل قالوا ناصيته بيد فلان، وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزّوا ناصيته ليمنّوا عليه ويفخروا بذلك، فخاطبهم الله تعالى بما يعرفون، ثم أكد لهم ذلك بقوله عز قوله «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٦» يسير فيه خلقه كلا بما يناسبه بحسب فطرته التي فطر عليها أزلا كما هو مدون في لوحه، لا تبديل لخلق الله، وهو جل شأنه عدل لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم، مطلع على أمور عباده، مجاز لهم بمقتضى أعمالهم، كالواقف على الجادة ليحفظها ويدفع الضرر عن المارين بها بالنسبة لما تعرفون.
وهذا كقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآية ١٤ من سورة والفجر، قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وأعرضوا عن نصحك ولم يؤمنوا فقل لهم «فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من الله «إِلَيْكُمْ» وقمت بما أوجبه علي من تبشيركم وإنذاركم، فإن لم تسمعوا وتطيعوا فلا بد من إهلاككم «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» لإعمار أرضه وخلافته فيها «وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» بتوليتكم عن طاعته وإنما تضرون أنفسكم «إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ٥٧» ومن جملة الأشياء أنا فإنه لا محالة حافظي من تعديكم بمقتضى وعده إياي بذلك وهو لا يخلف الميعاد وكل هذا لم ينجع بهم وبقوا مصرين على كفرهم فحق عليهم العذاب، قال تعالى «وَلَمَّا