آيات من القرآن الكريم

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

[سورة هود (١١) : آية ٤٤]

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَصْفٌ آخَرُ لِوَاقِعَةِ الطُّوفَانِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى أَمْرُ الطوفان قيل كذا وكذا يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ يُقَالُ بَلَعَ الْمَاءَ يَبْلَعُهُ بَلْعًا إِذَا شَرِبَهُ وَابْتَلَعَ الطَّعَامَ ابْتِلَاعًا إِذَا لَمْ يَمْضُغْهُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفَصِيحُ بَلِعَ بِكَسْرِ اللَّامِ يَبْلَعُ بِفَتْحِهَا وَيا سَماءُ أَقْلِعِي يُقَالُ أَقْلَعَ الرَّجُلُ عَنْ عَمَلِهِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ، وأقلعت السماء بعد ما مَطَرَتْ إِذَا أَمْسَكَتْ وَغِيضَ الْماءُ يُقَالُ غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ غَيْضًا وَمَغَاضًا إِذَا نَقَصَ وَغِضْتُهُ أَنَا وَهَذَا مِنْ بَابِ فَعَلَ الشَّيْءُ وَفَعَلْتُهُ أَنَا وَمِثْلُهُ جَبَرَ الْعَظْمُ وَجَبَرْتُهُ وَفَغَرَ الْفَمُ وَفَغَرْتُهُ، وَدَلَعَ اللِّسَانُ وَدَلَعْتُهُ، وَنَقَصَ الشَّيْءُ وَنَقَصْتُهُ، فَقَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ أَيْ نَقَصَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ كِبْرِيَائِهِ:
فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْجَلَالِ وَالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ مَتَى قِيلَ قِيلَ لَمْ يَنْصَرِفِ الْعَقْلُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الْفِكْرُ إِلَّا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ هُوَ هُوَ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ فِي الْعَالَمِينَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَّا هو. وثانيها: قوله:
يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فَإِنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَشِدَّتِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِذَا شَعَرَ الْعَقْلُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ قَاهِرٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا مُتَصَرِّفٍ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَمَالِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَعُلُوِّ قَهْرِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ السماء والأرض من الجمادات فقوله: يا أَرْضُ وَيَا سَماءُ مُشْعِرٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ وَتَكْلِيفَهُ نَافِذٌ فِي الْجَمَادَاتِ فَعِنْدَ هَذَا يَحْكُمُ الْوَهْمُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ نَافِذًا عَلَى الْعُقَلَاءِ كَانَ أَوْلَى وَلَيْسَ مُرَادِي مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ الْجَمَادَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ تَوْجِيهَ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ عَلَى هَذِهِ الْجَمَادَاتِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ يُقَرِّرُ فِي الْوَهْمِ نَوْعَ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ تَقْرِيرًا كَامِلًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ وَقَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ قَضَاءٌ جَزْمًا حَتْمًا فَقَدْ وَقَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ وَاقِعٌ فِي وَقْتِهِ وَأَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَائِهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ نَفَاذِ حُكْمِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُغْرِقَ الْأَطْفَالَ بِسَبَبِ جُرْمِ الْكُفَّارِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْغَرَقِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَغْرَقْ إِلَّا مَنْ بَلَغَ سِنُّهُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَجِيبَةً قَاهِرَةً. وَيَبْعُدُ مَعَ ظُهُورِهَا اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَيْضًا فَهَبْ أَنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِهْلَاكِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في أفعاله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَ الْأَطْفَالَ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الشَّدِيدَةِ.

صفحة رقم 353

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فَالْمَعْنَى وَاسْتَوَتِ السَّفِينَةُ عَلَى جَبَلٍ بِالْجَزِيرَةِ يُقَالُ لَهُ الْجُودِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ الْجَبَلُ جَبَلًا مُنْخَفِضًا، فَكَانَ اسْتِوَاءُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَلَى انْقِطَاعِ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللَّعْنِ وَالطَّرْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَسْلَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ قَوْمٍ من الظلمة فإذا هلكوا وَنَجَا مِنْهُمْ قَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَجَعْلُهُ مِنْ كَلَامِ البشر أليق.
تم الجزء السابع عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثامن عشر وأوله قوله تعالى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ من سورة هود. أعان اللَّه على إكماله

صفحة رقم 354
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية