آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

١٣- غيبة افترائهم وذهابه عنهم بحيث لم يعودوا يتنبهون لضلالهم: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
١٤- كونهم خاسرين في الآخرة: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)

صفحة رقم 52

الإعراب:
أَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ أو مفعول مُبِينٌ ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير.
ما نَراكَ الكاف: مفعول أول. الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فاعل اتَّبَعَكَ، واتَّبَعَكَ وفاعله: مفعول ثان لنراك إذا كان من رؤية القلب، وفي موضع الحال إذا كان من رؤية العين.
بادِيَ الرَّأْيِ منصوب على الظرف، أو في بادي الرأي، والعامل فيه: نَراكَ أي ما قبل إلا لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. وبادِيَ بغير همز: اسم فاعل من بدا يبدو: إذا ظهر، أي: ظاهر الرأي، وقرئ بالهمز: من بدأ يبدأ، أي أول الرأي.
أَنُلْزِمُكُمُوها أنلزم: يتعدى إلى مفعولين، الأول: الكاف والميم، والثاني: الهاء والألف، وأثبت الواو في: أَنُلْزِمُكُمُوها، ردا إلى الأصل لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، كقولك:
المال لك وله. وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا، وقدم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل والوصل.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ جملة اسمية في موضع الحال، ولَها: في موضع نصب لأنه يتعلق بكارهون.
تَزْدَرِي تقديره: تزدريهم، فحذف المفعول من الصلة وهو العائد، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي بعثه الله. وأصله: تزتري على وزن تفتعل، ثم أبدل من التاء دالا لقرب مخرجهما.
البلاغة:
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ شبّه من لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك الصحراء لا يعرف طرقها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ استفهام للإنكار والتقريع.
المفردات اللغوية:
إِنِّي لَكُمْ أي بأني لكم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، أبيّن لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص. أَنْ لا تَعْبُدُوا أي بألا تعبدوا. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة: جدّ جده، ونهاره صائم للمبالغة.

صفحة رقم 53

الْمَلَأُ الأشراف والزعماء. إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا فضل لك علينا، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. أَراذِلُنا أسافلنا وأخساؤنا وأصحاب الحرف الخسيسة والفقراء، جمع أرذل الذي هو جمع رذل، مثل كلب وأكلب وأكالب. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الرأي من غير تعمق، من البدو، أو أول الرأي أو ابتداء الرأي من غير تفكر فيك، من البدء، أي في بدء الحكم عليك من أول وهلة ووقت حدوث أول رأيهم. وهو منصوب على الظرف، أي وقت حدوث أول رأيهم. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ في ادعاء الرسالة والنبوة، وهذا الخطاب أدرجوا قومه معه فيه، وغلب المخاطب على الغائبين.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على حجة شاهدة بصحة دعواي الرسالة أو معجزة. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة.
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم فلم تهدكم، وحقه أن يقال: فعميتا، ولكن أفرد الضمير إما لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن حذفها للاختصار أو الاقتصار على ذكره مرة، أو لأنه لكل واحدة من البينة والرحمة. أَنُلْزِمُكُمُوها يعني أنجبركم أو أنكرهكم على قبولها والاهتداء بها.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، أي لا نقدر على ذلك.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ، وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. مالًا جعلا تعطونيه. إِنْ أَجرِيَ أى ما ثوابي المأمول. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سألوا طردهم. إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث، فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.
تَجْهَلُونَ عاقبة أمركم. مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي يمنعني من عذابه، أي لا ناصر لي إن طردتهم. أَفَلا فهلا. تَذَكَّرُونَ تتعظون، فإن طردهم ليس بصواب.
خَزائِنُ اللَّهِ أي خزائن رزقه أو أمواله حتى جحدتم فضلي. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف، أي ولا أقول لكم: أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة ولا تصميم قلبي. وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ بل أنا بشر مثلكم. تَزْدَرِي تحتقر شأنهم لفقرهم. لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ قلوبهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت شيئا من ذلك.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وبعد أن ذكر حال فريقي المؤمنين والكافرين المكذبين، وحض على الاعتبار

صفحة رقم 54

والاتعاظ بالحالين بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ ذكر مجموعة من قصص الأنبياء للعظة والتذكر، وبيان اشتراك النبي صلى الله عليه وسلّم مع من قبله من الأنبياء في الدعوة إلى أصول واحدة مشتركة بين الأنبياء، وهي عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، وتنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم.
التفسير والبيان:
أول هذه القصص المذكورة هنا هي قصة نوح عليه السلام، وكان قد ذكر تعالى هذه القصة في سورة يونس، وأعاد ذكرها هنا لما فيها من عظات وفوائد، أهمها إعلام الكفار أن محمدا صلى الله عليه وسلّم كغيره من الرسل، جاء للدعوة إلى توحيد الله وإثبات البعث والحساب والجزاء.
وتضمنت قصة نوح هنا عدة عناصر هي:
وصف دعوته إجمالا، ومناقشة قومه والرد عليهم، واستعجالهم العذاب، وكيفية صنع نوح السفينة، وإغراقهم بالطوفان، ونجاة نوح ومن آمن معه، والتماس نوح إنجاء ابنه معه. وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام.
والمعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه المشركين، فقال لهم: إني لكم نذير من الله ظاهر الإنذار، أنذركم عذابه وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله، فآمنوا به وأطيعوا أمره، ولا تعبدوا غيره، ولا تشركوا به شيئا لأني أخاف عذاب يوم القيامة، الذي هو عذاب شديد الألم.
ثم ذكر الله تعالى أجوبة قومه له وهي أربع شبهات:
الأولى- فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي قال السادة الكبراء من الكافرين منهم: ما أنت إلا بشر مثلنا، أي لست بملك، ولكنك بشر مشابه لنا في الجنس، فلا مزية تمتاز بها علينا تستوجب الطاعة.

صفحة رقم 55

الثانية- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ.. أي ولم يتبعك إلا أراذل القوم الأخساء أصحاب الحرف الخسيسة كالزرّاع والصناع، وهم الفقراء والضعفاء، في بادئ الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبر في عواقب الأمور. ولو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والأكياس من الناس، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء ٢٦/ ١١١].
الثالثة- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما رأينا لكم علينا امتيازا ظاهرا في فضيلة أو قوة أو ثروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي، يحملنا على اتباعكم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف ٤٦/ ١١].
الرابعة- بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أي بل يترجح لدينا كذبكم في ادعائكم الصلاح والسعادة في الدار الآخرة. ويلاحظ أنهم أشركوا معه أتباعه في هذه الإجابة، وكان الخطاب لنوح ومن آمن معه.
ثم أخبر الله تعالى عن ردود نوح عليه السلام على قومه الذين أثاروا تلك الشبهات، وغيرها مما لم يحكها القرآن وطواها، أو لم يقولوها ولكن كلامهم يستلزمها.
قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ.. قال نوح: يا قومي، أخبروني ماذا أفعل وما ترون؟ إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربي، يتبين لي بها أني على حق من عنده، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة والوحي، فعمّيت عليكم أي خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، أنكرهكم على قبولها ونغصبكم عليها، وأنتم لها كارهون، معرضون عنها، فلا يعقل الإكراه في الدين.
وهذا دليل النبوة والترفع عن آراء الجهال والسذّج.
وَيا قَوْمِ، لا أَسْئَلُكُمْ.. أي لا أطلب منكم على نصحي لكم مالا أي أجرا

صفحة رقم 56

آخذه منكم، وإنما أجري على الله عز وجل. وهذا قول تكرر صدوره من جميع الأنبياء بعد نوح، مثل هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام.
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليس من شأني طرد المؤمنين وتنحيتهم من مجلسي.
ويظهر من هذا أن أكابر الكفار كانوا يبغون تخصيصهم ببعض المزايا والامتيازات، كتخصيص مجلس خاص بهم، لا يلتقون فيه مع الضعفاء والفقراء، أنفة منهم وكبرا وترفعا، كما حدث تماما بين النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وبين قومه قريش، فقال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام ٦/ ٥٢].
إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبكم، ويعاقب من طردهم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق وتترددون في ظلمات الجهل في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم، فإن تفضيل الناس بعضهم على بعض إنما هو بالعمل الطيب والخلق الفاضل، لا بالثروة والمال والجاه كما تزعمون.
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي... أي يا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم، فذلك ظلم عظيم، كما قال تعالى: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام ٦/ ٥٢] أفلا تذكّرون، أي أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! وَلا أَقُولُ لَكُمْ.. أي لا تعني النبوة والرسالة أني أملك خزائن رزق الله تعالى، وأقدر على التصرف فيها، وإنما أنا بشر كغيري من الناس مؤيد بالمعجزات، أدعو إلى عبادة الله بإذنه، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه، ولست ملكا من الملائكة، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم: لن ينالهم خير، وليس لهم ثواب على أعمالهم، وهو ما وعدهم الله به

صفحة رقم 57

على الإيمان من سعادة الدنيا والآخرة، الله أعلم بما في صدورهم، فإن كان باطنهم كظاهر هم في الإيمان، فلهم الحسنى، وإن حكم إنسان على سرائرهم، كان ظالما قائلا ما لا علم له به.
والمقصود بالآية أن نوحا عليه السلام أخبرهم بتذلله وتواضعه لله عز وجل.
وفي هذا دلالة على الخط الفاصل بين الأنبياء وبين الزعماء، الأولون يهتمون بإرشاد الناس إلى ما فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية دون إغراء بمال أو عطاء نفعي، والآخرون يعتمدون في كسب الأتباع على الوعود بالمنافع المادية وبذل الأموال رخيصة من أجل كسب تأييدهم.
وفيه دلالة على أن النبي بشر لا ملك، وأنه لا يعلم الغيب وإنما علمه عند الله، كقوله تعالى: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف ٧/ ١٨٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- دعوة نوح قومه كدعوة سائر الأنبياء إلى عبادة الله وإطاعته وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام.
٢- الاستمرار على الكفر أو عبادة الأصنام يوجب العذاب الأليم الموجع الشاق في الدار الآخرة.
٣- إن الغالب في إعراض قوم نوح من الأشراف والسادة والكبراء كإعراض كل المكذبين الجاحدين مبني على أعذار واهية، رأسها الاستكبار والاستعلاء على بقية الناس من الفقراء والضعفاء الذين يتبعون الحق غالبا، كما قال تعالى:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢٣].

صفحة رقم 58

وهكذا يكون الغالب على ضعفاء الناس اتباع الحق، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما ذكرت الآية: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها.. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلّم قال له فيما قال:
أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
٤- قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ ليس بمذمة ولا عيب في الواقع لأن الحق إذا وضح، لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق حينئذ لكل ذي عقل وذكاء، ولا يفكر عندئذ بالبعد عنه إلا غبي أو عيي، والرسل عليهم السلام إنما جاؤوا بأمر جلي واضح. جاء
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم»
أي ما تردد ولا تروى لرؤيته أمرا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.
٥- الأنبياء يتمسكون عادة بما ثبت لديهم يقينا من وحي الله تعالى، والنبوة والرسالة، ولو عارضهم أكثر الناس.
٦- لا يلجأ الأنبياء عادة إلى إكراه أحد من الناس على قبول دعوتهم:
أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى الإيمان والمعرفة بها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، أو النبوة والرحمة الإلهية أو البينة. وهذا أول نص يمنع الإكراه على الدين.
٧- لا يصح عقلا وذوقا وأدبا طرد الأنبياء من يؤمنون بهم، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ضعفاء، فلو فعل ذلك أحدهم فرضا لخاصموه عند الله، وجازاهم على إيمانهم، وجازى من طردهم، ولا يجد من ينصره ويمنعه من عذاب الله إن طردهم لأجل إيمانهم، ويكون طرد المؤمنين بصفة دائمة لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ولا يقدم عليه نبي. والمقصود هو الطرد المطلق على سبيل التأبيد.

صفحة رقم 59
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية