
الرُّسُلِ وَزَادَهُمْ تَأْمِيلُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ كَانَتْ خُرَافَاتُ الْأَصْنَامِ وَمَنَاقِبُهَا الْبَاطِلَةُ مُغْرِيَةً لَهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالضَّلَالِ وَانْحِطَاطِ الْأَخْلَاقِ وَفَسَادِ التَّفْكِيرِ جُرْأَةً عَلَى رُسُلِ اللَّهِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ الْمُسْتَوْجِبُ حُلُولَ عَذَابه بهم.
[١٠٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٠٢]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
الْإِشَارَة إِلَى الْمَذْكُورَة مِنِ اسْتِئْصَالِ تِلْكَ الْقُرَى. وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَخْذُ رَبِّكَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ الَّذِي أَخَذْنَا بِهِ تِلْكَ الْقُرَى أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى.
وَالتَّشْبِيهُ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْعَاقِبَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ. وَجُمْلَةُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجه الشّبه.
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
بَيَانٌ لِلتَّعْرِيضِ وَتَصْرِيحٌ بَعْدَ تَلْوِيحٍ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبك فَاحْذَرُوهُ وحذروا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي هَذَا تَخْلُصٌ إِلَى مَوْعِظَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِمَدْحِهِمْ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَيَعْتَبِرُ بِالْعِبْرِ كَقَوْلِهِ:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣].

وَجَعَلَ عَذَابَ الدُّنْيَا آيَةً دَالَّةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرَى الظَّالِمَةَ تَوَعَّدَهَا اللَّهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: ٤٧] فَلَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ الدُّنْيَا كَانَ تَحَقُّقُهُ أَمَارَةً عَلَى تَحَقُّقِ الْعَذَابِ الْآخَرِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى أنّ المتكلّم يبتدىء كَلَامًا لِأَجْلِ وَصفه.
وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى الْآخِرَة لأنّ مَا صدقهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُرَاعَاةٌ لِمَعْنَى الْآخِرَةِ.
وَاللَّامُ فِي مَجْمُوعٌ لَهُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَجْمُوعٌ النَّاسُ لِأَجْلِهِ.
وَمَجِيءُ الْخَبَرِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ، أَيْ ثَابِتٌ جَمْعُ اللَّهِ النَّاسَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ تَعَلُّقِ الْجَمْعِ بِالنَّاسِ وَتَمَكُّنِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْيَوْمِ حَتَّى لُقِّبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: ٩].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ لِلْيَوْمِ بِأَنَّهُ يُشْهَدُ. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْفَاعِلِ إِذِ الْمُرَادُ يَشْهَدُهُ الشَّاهِدُونَ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى شَاهِدِينَ مُعَيَّنِينَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهُ شُهُودًا خَاصًّا وَهُوَ شُهُودُ الشَّيْءِ الْمَهُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ مَرْئِيًّا رُؤْيَةً خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى الْمُحَقَّقِ أَيْ مَشْهُودٌ بِوُقُوعِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَقٌّ مَشْهُودٌ، أَيْ عَلَيْهِ شُهُودٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ، وَاضِحٌ لِلْعَيَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى كَثِيرِ الشَّاهِدِينَ إِيَّاهُ لِشُهْرَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، كَقَوْلِ أُمِّ قَيْسٍ الضَّبِيَّةِ:

وَمَشْهَدٌ قَدْ كَفَيْتُ النَّاطِقِينَ بِهِ | فِي مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ |
وَجُمْلَةُ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَبَيْنَ جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: ١٠٥] إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُسْتَدِلِّينَ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهِ فِي حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ يَغِيظُ اللَّهَ تعَالَى فَيُعَجِّلُهُ لَهُمْ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى أَجَلٍ حَدَّدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا حَدَّدَ آجَالَ الْأَحْيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وَالْأَجَلُ: أَصْلُهُ الْمُدَّةُ الْمُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ اللَّامِ، كَمَا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٤].
وَالْمَعْدُودُ: أَصْلُهُ الْمَحْسُوبُ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَضْبُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ يَلْزَمُهُ التَّعَيُّنُ، أَوْ كِنَايَةً عَن الْقرب. صفحة رقم 162