
قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ (١) تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤١، ٤٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غَافِرٍ: ٤٦].
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) ﴾
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَبَرَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ ونَجّى الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِهَا ﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ﴾ (٢) أَيْ: عَامِرٌ، ﴿وَحَصِيدٌ﴾ أَيْ: هَالِكٌ دَائِرٌ، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ أَيْ: إِذْ أَهْلَكْنَاهُمْ، ﴿وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا وَكَفْرِهِمْ بِهِمْ، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾ أَيْ: أَصْنَامُهُمْ وَأَوْثَانُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: مَا نَفَعُوهُمْ وَلَا أَنْقَذُوهُمْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِهِمْ، ﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ (٣).
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ ودَمَارهم إِنَّمَا كَانَ بِاتِّبَاعِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةَ وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا (٤) فَبِهَذَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَخَسِرُوا بِهِمْ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ الْقُرُونَ الظَّالِمَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِنَا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِنَظَائِرِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ، ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ ليُملي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفلته"، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (٥).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) ﴾
(٢) في ت: "نقصها" وهو خطأ.
(٣) في ت: "تثبيت".
(٤) في ت: "إياهم".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٦٨٦) وصحيح مسلم برقم (٢٥٨٣).

وَاعْتِبَارًا عَلَى صِدْقِ موعُودنا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ [غَافِرٍ: ٥١]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ١٣، ١٤].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾ (١) أَيْ: أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٧].
﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ أَيْ: يَوْمٌ عَظِيمٌ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، وَيَجْتَمِعُ فِيهِ الرُّسُلُ جَمِيعُهُمْ، وَتُحْشَرُ فِيهِ الْخَلَائِقُ بِأَسْرِهِمْ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ وَالدَّوَابِّ، وَيَحْكُمُ فِيهِمُ (٢) الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ أَيْ: مَا نُؤَخِّرُ إِقَامَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ (٣) قَدْ سَبَقَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، فِي وُجُودِ أُنَاسٍ مَعْدُودِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَضَرَبَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً إِذَا انْقَضَتْ وَتَكَامَلَ وُجُودُ أُولَئِكَ الْمُقَدَّرِ خُرُوجُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، أَقَامَ اللَّهُ السَّاعَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ أَيْ: لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْتَقَصُ مِنْهَا، ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ (٤) يَقُولُ: يَوْمَ يَأْتِي هَذَا الْيَوْمُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ [يَوْمَئِذٍ] (٥) إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النَّبَأِ: ٣٨]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ [طَهَ: ١٠٨]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ: "وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللهُم سَلّم سَلِّمْ (٦) (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ أَيْ: فَمِنْ أَهْلِ الْجَمْعِ شَقِيَ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ، كَمَا قَالَ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشُّورَى: ٧].
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ (٨) سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ (٩) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: (١٠) يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نَعْمَلُ (١١) ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرغ مِنْهُ، أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: "عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يا عمر وجرت به الأقلام،
(٢) في أ: "فيه".
(٣) في ت، أ: "إلا أنه".
(٤) في ت: "يأتي" وفي أ. "يأتيهم".
(٥) زيادة من ت.
(٦) في ت: "اللهم سلم اللهم سلم".
(٧) صحيح البخاري برقم (٨٠٦) وصحيح مسلم برقم (١٨٢).
(٨) في ت، أ: "أبو".
(٩) في أ: "عمر بن الخطاب".
(١٠) في ت: "فقلت".
(١١) في ت: "على ما يعمل".