
والخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قال من البداية إنه لا يشك في رسالته، وحين وعده أهله بالسيادة قال:
«والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك

هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته».
نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب الأمة في خطاب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الأتباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجَّه بهذا الأسلوب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم لن يستنكفوا عن أيِّ أمر يصدر إليهم.
ومثال ذلك: لو أن قائداً يصدر أمراً لاثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين، فيقول القائد الأعلى لكل منهما: إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا. والقائد الأعلى بتعليماته لا يقصد المساعدين له، ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند.
وجاء الأمر هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لتفهم أمته أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان ليتأبَّى على أمر من أوامر الله، بل هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة؛ وذلك من باب خطاب الأمة في شخصية رسولها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقول الحق سبحانه:
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤].

هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وقد قال عبد الله بن سلام: «لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد».
إذن: فالحق عندهم واضح مكتوبٌ في التوراة من بشارة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا يثبت أنك يا محمد صادق في دعوتك، بشهادة هؤلاء.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ [يونس: ٩٤].
والحق القادم من الله تعالى ثابت لا يتغير؛ لأنه واقع، والواقع لا يتعدد، بل يأتي على صورة واحدة.

أما الكذب فيأتي على صور متعددة.
ولذلك فمهمة المحقِّق الدقيق أن يقلِّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء؛ حتى يأتي حكمه مصيباً لا مدخل فيه لتناقض، ولا يعتمد على تخيُّل أو أكاذيب.
وقول الحق سبحانه:
﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق﴾ [يونس: ٩٤].
إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول الله حقّاً، ومنهم من ترك معسكر اليهودية، وجاء إلى معسكر الإيمان بك؛ لأن الحق الذي جاء لا دخل للبشرية فيه، بل جاء من ربك:
﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ [يونس: ٩٤].
ومجيْ الخطاب بهذا الشكل، هو كما قلت موجَّه إلى الأمَّة المؤمنة في شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والحق سحبانه يقول:
﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥].
هذا القول نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن غير المعقول أن يشرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل الآيات التي تحمل معاني التوجيه في الأمور المنزَّه عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصَّة بأمته.
وأيضاً يقول الحق سبحانه:

﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين﴾ [يونس: ٩٥].
والقول الحكيم ساعة يوجِّه إلى الخير قد يأتي بمقابلة من الشر؛ لتتضح الأشياء بالمقارنة.
ونحن في حياتنا اليومية نجد الأب يقول لابنه: اجتهد في دروسك، واستمع إلى مدرِّسيك جيّداً حتى تنجح، فلا تكن مثل فلان الذي رسب، والوالد في هذه الحالة يأتي بالإغراء الخيِّر، ويصاحبه بمقابله، وهو التحذير من الشر.
وقد قال الشاعر:
فالوَجْهُ مثلُ الصُّبحِ مُبْيَضُّ | والشَّعْرُ مثلُ الليلِ مُسْوَدُّ |
ضِدَّانِ لمّا استجمعا حَسُنَا | والضِّدُّ يُظْهِر حُسنَهُ الضِّدُّ |