
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج ١، ص: ٤٩٣ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك والعز فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) أي بمصدقين وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) بفنون السحر حاذق فيه.
وقرأ حمزة والكسائي سحار فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ أي فأتوا بالسحرة قالوا لموسى: إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) أي ما معكم من الحبال والعصي
فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم واسترهبوا الناس قالَ لهم مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السحر أي التمويه الذي يظهر بطلانه لا ما سماه فرعون وقومه سحرا فهو من آيات الله تعالى. وقرأ أبو عمرو «السحر» بهمزة الاستفهام بإبدال الهمزة الثانية ألفا ومدها مدا لازما أو بتسهيلها من غير قلب وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى، والمعنى الذي جئتم به أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام وجه التحقير والتوبيخ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه بالكلية ويظهر فضيحة صاحبه للناس والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) أي لا يكمله وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يظهره ويقويه بِكَلِماتِهِ أي بوعده لموسى وقضائه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) ذلك فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف من فرعون لأنه كان شديد البطش وخوف على رؤساء الذرية فإن أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من إجابة موسى خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن الإيمان بتسليط أنواع العذاب عليهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) أي المجاوزين الحد بكثرة القتل والتعذيب لمن يخالفه في أمره من الأمور، وبالكبر حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء وَقالَ مُوسى لمن آمن به يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ولا تخافوا أحدا غيره إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) أي منقادين لأمره تعالى.
قال الفقهاء: الشرط المتأخر يجب أن يكون متقدما، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا فمجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله: إن كلمت زيدا، والمشروط متأخر عن الشرط، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل أن كلمت المرأة زيدا لم يقع الطلاق فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك، لأن الإسلام هو

الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد، والإيمان هو معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى فَقالُوا مجيبين له عليه السلام: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم دعوا ربهم قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) أي لا تجعلنا مفتونين لهم أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) أي خلصنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مصلى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ في بيوتكم إن موسى ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم لئلا يظهروا على الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة على هذه الحالة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) بالنصر في الدنيا وبالجنة في العقبى وخصّ الله تعالى موسى بالبشارة، لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تبع له. وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أي أشراف قومه زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها. وَأَمْوالًا كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعا عليهم بلفظ الأمر. والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.
قال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا وجعل سكرهم حجارة وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على «ليضلوا» حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) وإذا دعا موسى عليهم بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم. قالَ الله لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فموسى كان يدعو هارون كان يؤمن والتأمين دعاء، وحصول المدعو به بعد أربعين سنة لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة فَاسْتَقِيما أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالمصالح والحكم، أي ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، والاستعجال وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي جعلناهم مجاوزين بحر السويس بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط.
قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه على يوسف وهم اثنان وتسعون، وخرج بنوه مع