
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٨٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اقرأ يا محمد على أهل مكة نَبَأَ خبر نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ولد وأهل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عظم وثقل وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي فلو شق مكثي بين أظهركم وَتَذْكِيرِي ووعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبالله وثقت فَأَجْمِعُوا قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه. قال المؤرخ: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه، وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع | هل أغدون يوما وأمري مجمع «١» |
قال أبو ذؤيب: [عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع] »
وَشُرَكاءَكُمْ فيه إضمار أي: وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا، وكذلك في مصحف أبي وادعوا شركاءكم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب: وشركاؤكم رفعا على معنى: فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم، أي وليجمع معكم شركاؤكم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو.
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي خفيا مظلما ملتبسا مبهما من قولهم: غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه، قال طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة | نهاري وما ليلي عليّ بسرمد «٣» |
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه | وغمته عن وجهه فتجلت «٤» |
(٢) راجع تفسير القرطبي فقد فصّل ما أجمله المصنف: ٨/ ٣٦٣.
(٣) لسان العرب: ١٢/ ٤٤٢.
(٤) تفسير الطبري: ١١/ ١٨٦.

وقال الضحاك: يعني انهضوا إليّ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء: افضوا إليّ بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إليّ، كما يقال أنصت [الخلائق] إلى فلان وأفضى إلى الوجه وَلا تُنْظِرُونِ ولا تؤمرون، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح (عليه السلام) أنه كان من نصر الله واثقا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئا إلّا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي فَما سَأَلْتُكُمْ على الدعوة وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ جعل وعوض إِنْ أَجْرِيَ ما جزائي وثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ يعني نوحا فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ سكان الأرض خلفا عن الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يعني [أخزى] من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالآيات والأمر والنهي فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ليصدقوا بِما كَذَّبُوا بما كذبت بِهِ وأنّهم مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحلال إلى الحرام ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد نوح (مُوسى) وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أفراد قومه بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني فرعون وقومه الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحرا سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ «١» المعنى: يغشاكم ليسوؤا وجوهكم.
وقال ذو الرمّة:
فلما لبسن الليل أو حين نصبت | له من خذا آذانها وهو جانح «٢» |
وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر: آلسحر بالمد على الاستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود: ما جئتم به سحر وقراءة أبيّ: ما أتيتم به سحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. فَما آمَنَ لِمُوسى لم
(٢) جامع البيان للطبري: ١١/ ١٨٩.

يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فقال قوم: هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.
وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون: الهاء راجعة إلى فرعون.
روى عطية عن ابن عباس: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته.
وروي عن ابن عباس من وجه آخر: أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله.
قال الفراء: وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ يريد الكناية في قومه إلى فرعون، ردّ الكناية في قوله: وَمَلَائِهِمْ، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون: إلى ملأ فرعون.
قال الفراء: وإنما قال: وَمَلَائِهِمْ بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه «١».
[فيكون من باب حذف المضاف] وذكر وهب بن منبه، [أنه] إليه وإلى عصابته كما يقال:
قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون [كقوله تعالى] : سْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢» ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ «٣» أَنْ يَفْتِنَهُمْ بصرفهم عن دينهم، ولم يقل: يفتنوهم لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على [الضلال].
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر] لأنّه كان قد ادّعى الربوبية وَقالَ مُوسى لمؤمني قومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا.
ثم دعوا فقالوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال أبو مجلز: ربّنا لا تظهر فرعون وقومه علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغيانا. وقال عطية: لا تسلّطهم علينا فيسيئون
(٢) سورة يوسف: ٨٢.
(٣) سورة الطلاق: ١.