آيات من القرآن الكريم

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ

أصغي إلى قائدي لمخبرني إذا المقينا عمن يحييني
لله عينن التي فجعت بها لو أن دهرًا بها يواتيني
لو كنت خُيِّرت ما أَخَذْتُ بها تعميرَ نوح في ملك قارون (١)
٤٤ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ الآية، قال أرباب الأصول (٢) وأصحاب المعاني: لما ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين فريقين ووصفهما بالشقوة ينظرون ويسمعون ولا يعقلون ولا يؤمنون، وذلك للقضاء السابق عليهم، أخبر الله في هذه الآية أن تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه؛ لأنه يتصرف (٣) في ملكه كيف شاء (٤)، وإذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء لله تعالى (٥).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ الآية (كأن) هذه هي المخففة من الثقيلة، التقدير: كأنهم لم يلبثوا، كقول النابغة:
(١) الأبيات للخريمي كما في "عيون الأخبار" ٤/ ٥٧، و"الحيوان" للجاحظ ٣/ ١١٣، و"معاهد التنصيص" ١/ ٢٥٣، و"الشعور بالعور" ١/ ٢٤٦، و"الشعر والشعراء" ص ٨٥٤، و"نكت الهيمان" ص ٧١.
(٢) يعني علماء أصول الدين والعقيدة، وانظر: المسألة في "الإبانة عن أصول الديانة" ص ١٥٨، و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص ٢٨٠، وكتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص ١٨٩، و"الغنية في أصول الدين" ص ١٢٩.
(٣) في (ح) و (ز): (لا ينصرف)، وهو خطأ.
(٤) سبق بيان مذهب الأشاعرة في استحالة نسبة الظلم إلى الله والرد عليه.
(٥) لم أجده في كتب المعاني، وانظر نحوه في: "زاد المسير" ٤/ ٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٤٧.

صفحة رقم 209

وكأن قد (١)
وقول آخر:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر (٢) السلم (٣)
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾، قال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار (٤).
وقال الزجاج: أي قرب عندهم ما بين موتهم وبعثهم كما قال: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (٥) [المؤمنون: ١١٣].

(١) بعض بيت للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص ١٠٥ وتمامه:
أزف الترحل غير أن ركابنا لمّا تَزُلْ برحالنا وكأن قد
وانظر: "خزانة الأدب" ٧/ ١٩٧، "شرح شواهد المغني" ص ٤٩٠.
(٢) في (ى): (ناظر)، وهو خطأ، وفي المصادر التالية: وارق.
(٣) عجز بيت، وصدره:
ويومًا توافينا بوجه مقسَّم
وقد اختلف في نسبة البيت، فهو لباغت بن صريح اليشكري في "تخليص الشواهد" ص٣٩٠، "شرح المفصل" ٨/ ٨٣، "كتاب سيبويه" ٢/ ١٣٤، ولأرقم بن علباء في "شرح شواهد سيبويه" ١/ ٥٢٥، ولعلباء بن أرقم في "الأصمعيات" ص ١٥٧، ولأحد الثلاثة أو لراشد بن شهاب اليشكري في "خزانة الأدب" ١٠/ ٤١٣، وصحح البغدادي نسبته لعلباء بن أرقم. والشاعر يصف امرأته حالة رضاها، ويشبهها بظبية مخصبة. والمقسَّم: المحسن، وتعطو: تتطاول إلى الشجر لتتناول منه. انظر: "شرح الأعلم على كتاب سيبويه" ١/ ٢٨١، "لسان العرب" (قسم) و (عطو).
(٤) "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، والبغوي ٤/ ١٣٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٦، و"تنوير المقباس" ص ٢١٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.

صفحة رقم 210

وقال الضحاك وابن الأنباري: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم (١) وبعثهم فصار في تقديرهم كالساعة من النهار من هول ما استقبلوه من أمر البعث والقيامة (٢).
وقال آخرون: إنما قصرت عندهم مدة لبثهم في الدنيا لا مدة كونهم في البرزخ، فقوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ أي: في الدنيا إلا ساعة من النهار (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، قال ابن عباس (٤)، والضحاك (٥)، ومقاتل (٦): يتعارفون بينهم حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضًا كمعرفتهم في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة فلا يعرف أحد أحدًا، قال أبو إسحاق: وفي معرفة بعضهم بعضًا وعلم بعضهم بإضلال بعض التوبيخ لهم وإثبات الحجة عليهم (٧)، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ بتوبيخ (٨) بعضهم بعضًا، فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا،

(١) ساقط من (ح).
(٢) انظر قول الضحاك في "الوسيط" ٢/ ٥٤٩، "زاد المسير" ٤/ ٣٦، وبمعناه في "بحر العلوم" ٢/ ١٠٠.
(٣) هذا قول آخر للضحاك رواه الثعلبي ٧/ ١٦ أ، والبغوي ٤/ ١٣٥، وهو قول مقاتل ابن سليمان في "تفسيره" ١٤٠ ب، والزمخشري في "كشافه" ٢/ ٢٣٩.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٥، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، وابن الجوزي ٤/ ٣٦، وقد تبين من "تفسير السمرقندي" أن الأثر من رواية الكلبي ولا يخفى تهافتها.
(٥) "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٠٠.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب بمعناه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٨) في (ج) و (ز): (توبيخ).

صفحة رقم 211

وأنت كسّبتني دخول النار بما علمتنيه وزينته لي، فهذا تعارف توبيخ وتعنيف، وتباعد وتقاطع، لا تعارف عطف وإشفاق، ومن هذه الجهة وافق قوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ١٠]، يريد لا يسأله سؤال رحمة وعطف. هذا كلامه (١)، والمفسرون حملوا الآيتين على حالتين فقالوا: يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة، فلذلك لا يسأل حميم حميمًا (٢)، وقال أبو علي: معنى ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾ يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يكون المعنى يتعارفون مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها، وحذف المفعول للدلالة عليها (٣) كما حذف في مواضع كثيرة، وعدي (تفاعل) (٤) كما عدي فيما أنشد أبو عبيدة (٥):
تخاطأت (٦) النبل أحشاءه

(١) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٠٤ - ١٠٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٣٦ دون نسبة.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٢٠، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، والماوردي ٢/ ٤٣٧، والثعلبي ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٥، والرازي ١٧/ ١٠٥.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والضمير يعود إلى (مدة) إذ هي المفعول، وفي "الحجة" عليه، ومعنى (يتعارفون مدة إماتتهم) أي: يسأل بعضهم بعضًا كم لبثتم في القبور.
(٤) يعني وزن: تعارف.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ٥، ونسبه إلى أوفى بن مطر المازني، وهو صدر بيت عجزه:
وأُخِّر يومي فلم يُعجل
وانظر: "سمط اللآلي" ١/ ٤٦٥، "شرح أبيات المغني" ٧/ ٤١، "اللسان" (خطأ) ٢/ ١١٩٣.
(٦) في (ح) و (ز) و (ص): (تخطأت)، وهو موافق لرواية "لسان العرب"، وما أثبته من (ى) و (م) موافق لرواية أبي عبيدة في "مجاز القرآن" وبقية المصادر، ومعنى تخاطأت: أخطأت، كما في "شرح أبيات المغني"، الموضع السابق.

صفحة رقم 212

أو يكون أعمل الفعل الذي دلّ عليه (يتعارفون)؛ ألا ترى أنه دل علي يستعلمون ويتعرفون، وتعرّفوا مدة اللبث هاهنا، كما تعّرفوها (١) [في قوله: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [المؤمنون: ١١٢] الآية، والآخر في التعارف: بما جاء في قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] (٢) يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ﴾ [الصافات: ٥٠، ٥١]، وقال في موضع آخر ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا﴾ (٣) [الطور: ٢٦] الآية، وتعرّفهم يكون على أحد هذين الوجهين (٤)، وذكر (٥) تقدير الآية فقال: يحتمل قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لليوم، ويكون التقدير: كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة، فحذفت الكلمة لدلالة المعنى علمها، ومثله قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] أي أمسكوهن قبله، وكذلك قوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٢٦] أي قبل انقضاء الأربعة الأشهر، ويجوز أن يكون على هذا التقدير حذف (قبل) الذي هو مضاف إلى الهاء، وأقيم المضاف إليه مقامه ثم حذفت الهاء من الصفة، كقولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت، ومثل هذا قوله: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الشورى: ٢٢] والتقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(١) في (ز): (يعرفونها).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ز).
(٣) وقد ذكر أبو علي الآية بتمامها والآية التي قبلها.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٢.
(٥) يعني أبا علي الفارسي.

صفحة رقم 213

الوجه الثاني: أن تجعله صفة للمصدر على تقدير: ويوم نحشرهم حشرًا (١) كأن لم يلبثوا قبله، ثم فُعِلَ بـ (قبله) ما ذكرنا في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن تجعله حالاً من الضمير المنصوب في ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ والمعنى: نحشرهم مشابهةً أحوالُهم أحوال من لم يلبث إلا ساعة، وأما (يوم) فإنه يصلح أن يكون معمولًا لأحد شيئين؛ أحدهما: أن يكون معمول ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾، وينتصب على وجهين؛ أحدهما: أن يكون ظرفًا معناه: يتعارفون في هذا اليوم، والآخر: أن يكون مفعولًا على السعة على:
يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار (٢)
وأهل الدار ما سرقوا وإنما سرق منهم، ولكن جعلوا مفعولًا على السعة، كذلك هاهنا تعارفوا في اليوم فجعل اليوم مفعولًا على السعة، والآخر (٣): أن يكون ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ معمول ما دلّ عليه قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ ألا ترى أن المعنى: تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف وإن تقدم الظرف عليه، كقولهم: أكلَّ يوم لك ثوب؟ غير أن هذا الوجه ضعيف؛ لأن قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ لا يخلو من أن يكون على أحد (٤) الأوجه الثلاثة التي

(١) في (ي): (نحشرهم جميعًا حشرًا) والجملة ليست من كلام أبي علي في هذا الموضع.
(٢) رجز مجهول القائل وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" ١/ ١٧٥، وانظره بلا نسبة في: "خزانة الأدب" ٣/ ١٠٨، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص ٦٥٥، "المحتسب" ٢/ ٢٩٥.
(٣) يعني الوجه الثاني في العامل في (يوم).
(٤) في (ح) و (ز): (احدى).

صفحة رقم 214

ذكرنا، فإن جعلته صفة المصدر لم يجز أن يعمل في (يوم)؛ لأن الصفة لا يتقدم عليها ما تعمل فيه، وإن جعلته صفة لليوم فالصفة لا تعمل في [الموصوف كما أن الصلة لا تعمل في] (١) الموصول؛ لأنها بعضه، وإنْ قدرته تقدير الحال على ما ذكرنا لم يجز أن يكون (يوم) معمولًا له؛ لأن العامل [في الحال] (٢) (نحشر) و (نحشر) قد أضيف اليوم إليه فلا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه؛ لأن ذلك يوجب تقديمه على المضاف، فلهذا (٣) قلنا: إن هذا الوجه ضعيف (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾، قال المفسرون: خسر ثواب الجنة الذين كذبوا بالبعث (٥).
قال ابن الأنباري: ووجه اتصال خسرانهم بتعارفهم هو أن الله -عز وجل- لما ذكر البعث وذكر ما يصير إليه أحوال المبعوثين، وصله بتخسير المكذبين بالبعث (٦)، وهذا معنى قول أبي إسحاق: يجوز أن يكون هذا إعلامًا من الله عز وجل -بعد أن بين أمر البعث- أنه من كذب به فقد خسر (٧).
قال أبو بكر: وفيه قول (٨) آخر: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في

(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) في (ح): (فلذلك).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٠ - ٣٠٤ بتصرف واختصار، وإضافة بعض الجمل.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٣٦، "الوسيط" ٢/ ٥٤٩، وبنحوه في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٢٠.
(٦) لم أجده.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٨) فى (ى): (وجه).

صفحة رقم 215
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
عدد الأجزاء
1