
انقسام المشركين إلى فريقين حول الإيمان بالقرآن والنبي
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
الإعراب:
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ حملا على معنى مَنْ لأن معناها الجمع.
مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ينظر حملا على لفظ مَنْ لأن لفظها مفرد.
وَلكِنَّ النَّاسَ ذهب جماعة من النحويين إلى أن الاختيار في لكِنَّ إذا جاءت معها الواو أن تكون مشدّدة، وإذا جاءت بغير واو أن تكون مخففة، قال الفراء: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخففت لتكون مثلها في الاستدراك، وإذا جاءت بالواو خالفت فشدّدت، فمن شددها، كان ما بعدها منصوبا لأنه اسمها، ومن خففها رفع ما بعدها على الابتداء، وما بعده الخبر أَنْفُسَهُمْ مفعول به مقدم.
البلاغة:
مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ... ومَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ بينهما طباق السلب.
الصُّمَّ.. الْعُمْيَ مجاز عن الكافرين، شبههم بالصم والعمي لإعراضهم عن الحق والهدى.
المفردات اللغوية:
وَمِنْهُمْ ومن المكذبين أهل مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق

ولكن يعاند، أو من سيؤمن به ويتوب عن كفره. وضمير بِهِ يعود إلى القرآن مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو المصرين على الكفر، وهو تهديد لهم.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ أصروا على تكذيبك لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي لكل جزاء عمله، وأنا بريء من عملكم، وبما أني تبرأت منه فقد أعذرت أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذوني بعملي ولا أؤاخذ بعملكم.
مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ شبههم بهم في عدم الانتفاع بالقرآن وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم وتدبرهم. وهذا يدل على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه.
مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ شبههم بهم في عدم الاهتداء وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة، فإن المقصود من الإبصار: هو الاعتبار والاستبصار. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم.
لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وتفويت منافعها عليها. وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت المجبرة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى طعن الكافرين في النبوة والوحي، وبعد أن أنذرهم بالدمار والعذاب في الدنيا بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ذكر أنهم في الواقع فريقان: فريق يصدق بأن القرآن كلام الله، ولكنه يكابر ويعاند، وفريق لا يصدق به أصلا لفرط غباوته وجهله، فيصر على تكذيب النبي لفقده الاستعداد للإيمان به، فلا أمل في إصلاحه وهدايته، فتكون المصلحة في إعطاء الفرصة للفريق الأول للإيمان دون الاستئصال.
التفسير والبيان:
المشركون في الحال والاستقبال فريقان: فريق يصدق بالقرآن في نفسه

ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب، وفريق يشك فيه لا يصدق به. هذا في الحال. ويجوز أن يراد بفعل يُؤْمِنُ الاستقبال، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من سيؤمن بهذا القرآن، ويتبعك، وينتفع بما أرسلت به ومنهم من سيصرّ على كفره، ويموت على ذلك ويبعث عليه.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله، وهؤلاء هم المعاندون أو المصرّون، والله العادل الذي لا يجوز، بل يعطي كلا ما يستحقه، فمعنى الآية: وربك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم والطغيان، فلا أمل في صلاحهم، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وسيعذبهم في الدنيا والآخرة.
وإن كذّبك هؤلاء المشركون وأصروا على ذلك، فتبرأ منهم ومن عملهم، وقل لهم: لِي عَمَلِي: وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير والطاعة والإيمان، وسيجازيني الله عليه، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ: وهو الظلم والشرك والفساد، وسيجازيكم الله عليه، كما قال تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس ١٠/ ٥٢].
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يراد بذلك الزجر والردع، وإعلان مبدأ المسؤولية الفردية: وهي انحصار مسئولية كل إنسان بنفسه، وعدم سؤاله عن ذنب غيره. والمعنى: فلا تؤاخذوني بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم فقد أعذرت وأنا بريء من عملكم، كقوله تعالى: قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود ١١/ ٣٥] وقوله: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥] وقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤] وقوله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٦].

وأما موقف المشركين المكذبين منك يا محمد، فلا تعجب منه، فمنهم من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وإنما يسمعون دون تدبر ولا فهم، ويهتمون بسماع نظم القرآن وجرس صوته، فهم لاهون لاعبون غير جادّين: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ٢- ٣] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك، وضموا إلى ذلك أنهم لا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه، فينتفعوا به، فإن السماع النافع للمستمع: هو ما عقل به ما يسمعه، وعمل بمقتضاه وإلا كان في الواقع كالأصم حقيقة. وهذا حال بعض المسلمين مع الأسف اليوم. وفيه دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم بالقسر والإلجاء إلا الله عز وجل.
ومنهم من ينظر إليك عند قراءتك القرآن نظرة إعجاب، ولكنه لا يبصر نور الإيمان والقرآن وهداية الدين والخلق القويم. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي لا تقدر على هداية هؤلاء، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة، فلا تستطيع هدايتهم لفقدهم نعمة البصيرة المدركة والعقل المدرك: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦].
والخلاصة: إنك يا محمد لا تستطيع هداية هؤلاء، لفقدهم الاستعداد للفهم والهداية، وكأنهم مثل من فقد حاسة السمع في الحقيقة، وفقد حاسة البصر أيضا لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧] والمراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً.. أي إن الله تعالى لا يجور أبدا، بسلب

حواسهم وعقولهم التي بها يدركون الأشياء ويهتدون إلى الحق والصواب، ولكن الناس هم الظالمون أنفسهم وحدها دون غيرها لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي، بتعطيلهم نعمة العقل، وتنكرهم لهداية الدين. وهذا وعيد للمكذبين، فإن عذابهم يوم القيامة عدل وحق لا ظلم فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- جميع الكفار ومنهم أهل مكة في الماضي: منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، لكنه يتعمد إظهار التكذيب، ومنهم من لا يؤمن به أصلا. ومنهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويؤمن، ومنهم من يصر على الجحود ويستمر على الكفر، والله تعالى عليم بالجميع.
٢- كل إنسان مسئول عن نفسه وسيلقى جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر.
٣- إن الحواس من سمع وبصر لها هدفان: هدف ظاهري وهو سماع المسموعات ورؤية المبصرات، لتكون الحياة بوجه سليم وهدف حقيقي: وهو استخدامها في تدبر المسموع وفهمه وتعقله، وإنعام النظر وإدراك البصيرة في أمور الدين والأخلاق، للتوصل إلى نعمة الإيمان والهداية والحق، والتخلص من ظلمة الكفر والضلال والباطل.
٤- الرسول صلى الله عليه وسلّم مجرد مبلّغ ومنذر ومبشر، فلا يقدر على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الهداية في النفوس، وما على العقلاء إلا الاستجابة لبلاغاته، والاستماع لمواعظه ولأنه كما لا يقدر على إسماع من سلب السمع، وإبصار من حرم البصر، فلا يقدر أن يوفق هؤلاء للإيمان إذا أصروا على الكفر.