
وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال [لإتباع] الكسر الكسر وقيل: هو على لغة من يقرأ نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ونحوها، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي، يقال: هديته فهدى أي اهتدى فقال: خبرته فخبر ونقصته فنقص.
إِلَّا أَنْ يُهْدى في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين. أراد لا يرشدون إلّا أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام، قالوا: وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلّا أن يحمل وينتقل عن مكانه إلّا أن ينقل كقول الشاعر:
للفتى عقل يعيش به... حيث تهدي ساقه قدمه «١»
يريد حيث يحمل فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تقضون لأنفسكم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٥٢]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)

وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء: معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «١» وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «٢»، وقال الكسائي: أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره: وما كان هذا القرآن مفترى، وقيل: أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون الله وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ أي يقولون.
قال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه، اختلق محمّد القرآن من قبل نفسه.
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع: بِسُورَةِ مِثْلِهِ مضافة، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ممن تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ليعينوكم على ذلك، وقال ابن كيسان: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ على المخالفة ليعينوكم، وقال مجاهد: شهداءكم بمعنى ناسا يشهدون لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ محمدا افتراه.
ثم قال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعني القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ تفسيره.
وقال الضحاك: يعني عاقبته وما وعد الله في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر.
وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه؟) فقال: نعم في موضعين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «٣» كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الخالية فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشّر المشركون بالهلاك والعذاب وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لعلم الله السابق فيهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين لا يؤمنون وَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمد فَقُلْ لِي عَمَلِي الإيمان وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الشرك أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ.
قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره، وأن أحدا لا يؤمن إلّا بتوفيقه وهدايته، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد صلى الله عليه وسلّم فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة الله وعلمه فيهم فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بأسماعهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
(٢) سورة التوبة: ١٢٢. [.....]
(٣) سورة الأحقاف: ١١.

بأبصارهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ وهذا تسلية من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً لأنه في جميع أفعاله عادل.
وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا [وألزمهم] ما ليس للفاعل أن يفعله.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال الضحاك: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا، وقال ابن عباس: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إلّا قدر ساعة مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يا محمد في حياتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الآخرة ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ مجزيهم به.
قال المفسرون: فكان البعض الذي أراه قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل.
وقال مجاهد ومقاتل: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ يوم القيامة قُضِيَ بينه وبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم وَيَقُولُونَ أي المشركون مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي وعدتنا يا محمد من العذاب.
وقيل: قيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ أنت يا محمد وأتباعك صادِقِينَ. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة [وأجل] إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وقت [انتهاء] أعمارهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ لهم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الله بَياتاً ليلا أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ المشركون وقد وقعوا فيه أَثُمَّ هنالك وحينئذ، وليس بحرف عطف إِذا ما وَقَعَ نزل العذاب آمَنْتُمْ بِهِ صدقتم بالعذاب في وقت نزوله.
وقيل: بأنه في وقت البأس آلْآنَ فيه إضمار أي، وقيل: أنّهم الآن يؤمنون وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وتكذبون ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا.