النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٤١]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
القراآت:
كلمات ربك وكذلك في آخر السورة على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لا يهدي مثل يرمي: حمزة وعلي وخلف يَهْدِي بسكون الهاء وتشديد الدال: أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلا يَهْدِي بكسر الهاء وتشديد الدال: عاصم غير يحيى وجبلة ورويس يهدي بكسرتين والتشديد: يحيى يهدي بفتحتين والتشديد: ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس.
الوقوف:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط اللَّهُ ج تَتَّقُونَ هـ ج ط رَبُّكُمُ الْحَقُّ ج ط للاستفهام مع الفاء إِلَّا الضَّلالُ ج ط تُصْرَفُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ثُمَّ يُعِيدُهُ الأول ط تُؤْفَكُونَ هـ إِلَى الْحَقِّ ط لِلْحَقِّ ط أَنْ يُهْدى ج ط لما مر فَما لَكُمْ ص لحق الاستفهام الثاني تَحْكُمُونَ هـ ط إِلَّا ظَنًّا ط شَيْئاً ط يَفْعَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ تَأْوِيلُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُ بِهِ ط بِالْمُفْسِدِينَ هـ عَمَلُكُمْ ج لأن أَنْتُمْ مبتدأ والعامل واحد تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس.
فالحجة الأولى قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة،
وكان ﷺ يقول: «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم»
ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر.
فَذلِكُمُ الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق إِلَّا الضَّلالُ والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال، إذ لا واسطة بين الأمرين، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. كَذلِكَ أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وتفسير الكلمة أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة: قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر
فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وقدرته عجزا وإرادته عبثا وإشهاده باطلا. الحجة الثانية قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وإنما قال: ثُمَّ يُعِيدُهُ مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلائل الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك. وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله قُلِ اللَّهُ الآية. تنبيها على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر، فكأنه قيل:
تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق. وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كقوله:
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقد مر في «المائدة». الحجة الثالثة قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلا ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن، فحكى عن الخليل ﷺ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨] وعن موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥] وأمر محمدا ﷺ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ١- ٣] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه إذ الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلا عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج: يقال: هديت للحق وإلى الحق بمعنى، فجمع بين العبارتين.
ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي وسائر القراآت أصلها «يهتدي» فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل: هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها إِلَّا أَنْ يُهْدى وأجيب بوجوه منها: أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: ٣١] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: ١٤] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة
والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة، ثم إنها تشتغل بهداية الغير. ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال: هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه. ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال:
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم والتحقيق شَيْئاً من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن، وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. ولما فرغ من دلائل التوحيد شرع في إثبات النبوة فقال: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي افتراء من دون الله أو كلمة «أن» بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها، ونفس هذا التصديق أيضا معجز لأن أقاصيصه موافقة لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقا فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] قال في الكشاف قوله: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ داخل في حيز الاستدراك كأنه قال: ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين، وجوز أن يكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض كقولك: زيد لا شك فيه كريم.
والمعنى ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهما على سبيل الإنكار أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إن كان الأمر
كما تزعمون فَأْتُوا أنتم على وجه الافتراء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه افتراه. قال بعض العلماء: هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة. والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة. قالت المعتزلة: لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديما والإتيان بالقديم محال لم يصح هذا التحدي. وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك بَلْ كَذَّبُوا سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وهو القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغيا وحسدا وعنادا. وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخرا وجوه منها: أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله: عز من قائل لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: ١١١]. ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: ٧] الآية. ومنها أنهم رأوا القرآن يظهر شيئا فشيئا فاتهموا النبي وقالوا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة [الفرقان: ٣٢] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءا من حديث الحشر والنشر، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك. وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وكانوا يقولون. إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل. وقيل: معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة. فقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إشارة إلى التكذيب
صفحة رقم 583
به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا. ثم ختم الآية بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقوا في خسران الدارين. وقيل: المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم. ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند وَمِنْهُمْ من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهرا ولا باطنا، ويمكن أن يقال: المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هل يتوبون أو يصرفون. ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي أي جزاء عملي على الطاعة والإيمان وتبليغ الرسالة وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قال مقاتل والكلبي: هي منسوخة بآية القتال. والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئا من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم.
التأويل:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية، أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيكون سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس وَمَنْ يُدَبِّرُ أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب.
فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة أَفَلا تَتَّقُونَ بالله عن غيره لتدخلوا بيت الوحدة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم.