آيات من القرآن الكريم

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ

إثبات البعث
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
الإعراب:
أَفَمَنْ يَهْدِي.. مِنْ: مبتدأ مرفوع، وأَحَقُّ: خبره، وفي الكلام محذوف تقديره: أحق ممن لا يهدي. وأَنْ يُتَّبَعَ: إما موضعه النصب على تقدير حذف حرف الجر، وإما الرفع على البدل من مِنْ بدل اشتمال. وأَحَقُّ: الخبر. ويحتمل أن يجعل أَنْ مبتدأ ثانيا، وأَحَقُّ خبره مقدم عليه، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول وهو مِنْ.
ويَهْدِي أصله يهتدي، فأبدل من التاء دالا، وأدغم الدال في الدال، وكسرت الهاء لاتباع ما بعدها ولالتقاء الساكنين لأنه الأصل في التقاء الساكنين. وقرئ بفتح الهاء (يهدّى) لأنه نقلت فتحة التاء إلى الهاء.
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ في موضع نصب بتحكمون.
شَيْئاً منصوب لأنه في موضع المصدر، أي غناء، مثل: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي إشراكا ويجوز أن يكون مفعولا به، ومِنَ الْحَقِّ: حالا منه.
البلاغة:
يَبْدَؤُا... ثُمَّ يُعِيدُهُ بينهما طباق. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ استفهام توبيخ وتقرير أي الأول أحق.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ الاستفهام للتوبيخ.

صفحة رقم 169

المفردات اللغوية:
مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالابتداء في الإلزام بها، لظهور برهانها.
تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل وعن عبادته مع قيام الدليل.
مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بإقامة الحجج، وإرسال الرسل، وخلق الاهتداء أو التوفيق للنظر والتدبر. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله أَمَّنْ لا يَهِدِّي أم الذي لا يهتدي، والاستفهام للتقرير والتوبيخ، أي الأول أحق. كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه، وما يقتضي صريح العقل بطلانه.
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في عبادة الأصنام، والمراد بالأكثر الجميع، أو الذي عنده تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد. إِلَّا ظَنًّا وهو تقليد الآباء بالاعتماد على خيالات فارغة وقياسات فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد الظن فيما يطلب فيه العلم والاعتقاد الحق. شَيْئاً من الإغناء. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فيجازيهم عليه.
المناسبة:
انتقل الله تعالى فورا في بيانه من إثبات التوحيد إلى إثبات البعث، من طريق معرفة القادر ابتداء على خلق الإنسان وخلق السموات والأرض، وأن الإعادة كالابتداء، ثم عرض الأمر على العقلاء في بيان الأحق بالاتباع أهو الله الذي يخلق الاهتداء والتوفيق إليه، أم المحتاج إلى هداية غيره؟
وصيغ البيان أو الحجة بطريق السؤال والاستفهام لأنه أوقع في النفس، وأبلغ تأثيرا على القلب.
التفسير والبيان:
قل للمشركين أيها الرسول: من الذي بدأ خلق السموات والأرض، ثم أنشأ ما فيهما من الخلائق؟ هل يستطيع أحد غير الله ذلك؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو جنّا أو رسولا أو غيرهم؟ ومن يقدر أن يعيد الخلق خلقا جديدا؟

صفحة رقم 170

وبما أنهم بسبب اللجاج والمكابرة لا يؤمنون بالبعث والمعاد، فلم يجيبوا كما أجابوا عن الأسئلة الخمسة المتقدمة، فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلِ: اللَّهُ...
أي قل أيها الرسول: الله هو القادر على بدء الخلق وإعادته لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، فهو سبحانه وتعالى الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له. علما بأنهم يعترفون بأن المبدئ والمعيد في النباتات هو الله، لما يشاهدونه من تكرار بدء ظهور النبات بالمطر في فصل الشتاء، ثم موته في الصيف، ثم عودته إلى الظهور في الشتاء القادم مرة أخرى. ولكنهم ينكرون إعادة الحياة في الأحياء الحيوانية من إنسان وغيره.
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل وعن الحق وهو التوحيد إلى الضلال وهو الإشراك وعبادة الأصنام؟
أي إذا كانت فطرتكم وعقولكم أو أنظاركم وملاحظاتكم تؤدي إلى أن الله تعالى هو الذي يعيد الحياة إلى النبات، فلم لا تعترفون بقدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان؟ وذلك يؤدي بكم إلى الإيمان بالبعث والجزاء يوم القيامة؟! ثم سألهم الله تعالى عن شأن من شؤون الربوبية، بقوله: قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ؟... أي قل لهم أيها الرسول: هل يستطيع أحد من شركائكم هداية الضال والحيران: إما بالفطرة والغريزة، وإما بالحواس من سمع وبصر ونحوهما، وإما بالعقل والتفكير، وإما بهداية الكتب السماوية والرسل، أو هم عاجزون عن ذلك كله؟! وهذه الهداية هي تماما كالقدرة على الخلق والتكوين، كقوله تعالى:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٥٠].
وبما أنهم يدركون تماما أن شركاءهم لا يستطيعون شيئا من الخلق والهداية التشريعية، فلم يجدوا جوابا، فأجابهم الله تعالى: قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ

صفحة رقم 171

أي قل أيها الرسول: هو الله الذي يهدي إلى الحق بما أوجد من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، ومنح الإنسان مفاتيح العلم والمعرفة والإيمان بالعقل والحواس.
ومن هو أحق باتباع قوله وطاعة أمره؟ أهو الذي يقدر على الهداية إلى الحق والرشد والإيمان، أم الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهو الله تعالى؟
وهذا يشمل جميع الشركاء من ملائكة وغيرهم كالمسيح وعزير فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي فما بالكم وأي شيء دهاكم، كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه، وحكمتم بجواز عبادة غير الله وشفاعتهم؟ وهذا تعجب شديد من حكمهم الجائر بالمساواة بين عبادة الله تعالى وعبادة شركائهم العاجزة عن كل شيء.
ثم بين الله تعالى أنهم لا يتبعون في اعتقادهم هذا وشركهم وعبادتهم غير الله دليلا ولا برهانا، وإنما يتبع جميعهم نوعا من الظن الضعيف وهو التوهم والتخيل، وذلك لا يغني عنهم شيئا، لأن الظن الخائب لا يغني شيئا من الإغناء فيما يطلب فيه الحق الثابت، أي العلم والاعتقاد الصواب.
إن الله عليم بأفعالهم، فيجازيهم على كل فعل منها، كتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم، مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، وتقليد الآباء والأجداد بدون حجة أو دليل. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
والخلاصة: أن مجموعات، الآيات السابقة اشتملت على حجج ثلاث للاستدلال على وجود الله تعالى: الأولى- أنه الرازق الموجد السمع والبصر خالق الموت والحياة، والثانية- أنه خالق الإنسان والسموات والأرض وما بينهما، والثالثة-

صفحة رقم 172

أنه القادر على الهداية. والاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا: عادة مطردة في القرآن.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت هذه الآيات من أجل إثبات البعث على توبيخين للمشركين وتهديد.
أما التوبيخ الأول: فهو على عبادتهم شركاء عاجزين عن الخلق بدءا وإعادة، فكيف تصح تلك العبادة؟ وكيف تنقلبون أيها المشركون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟
وبما أن الحق تعالى هو القادر على الخلق، فخلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة دم، وهو قدير على إعادته، فيجب الإيمان بالبعث إيمانا لا يخالجه أي شك أو ريبة.
وأما التوبيخ الثاني: فهو أيضا على اتخاذ الشركاء آلهة معبودة مع أنهم لا يستطيعون هداية أنفسهم ولا غيرهم، فيكون الأحق بالعبادة والتوحيد هو الله تعالى القادر على الإرشاد إلى الطريق المستقيم الذي هو القرآن ودين الإسلام..
فما لكم كيف تحكمون، أي فأي شيء لكم في عبادة الأوثان، وكيف ترضون لأنفسكم وعقولكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؟
وأما التهديد: فهو على الكفر والتكذيب: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وسيجازيكم عليه.
ودلت آية إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً على أنه لا يكتفى بالظن في

صفحة رقم 173
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية