آيات من القرآن الكريم

۞ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ

وَآخِرُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ
أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣٩: ٧٥).
فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ - وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا لَهُ هُنَا بِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى - أَنْ يُمَثِّلَ لِنَفْسِهِ حَالَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، الْمُبَيِّنَةِ لِنَعِيمِهِمُ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِمْ، وَلِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعْظَمَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ رُوحَانِيٌّ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهَا بِالِاتِّكَالِ عَلَى التَّوَسُّلَاتِ بِأَشْخَاصِ الْأَوْلِيَاءِ وَالتَّمَنِّي لِشَفَاعَاتِهِمْ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ و١٢٤) وَ (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (١٧: ٧٢).
وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: ((إِذَا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ - أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ)) وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. فَالْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخَدَمِهِمْ فِي إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللهَ تَعَالَى. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ أَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَمْ لَا.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضَرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا

صفحة رقم 254

مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَشُعُورِهِمْ فِيهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاللُّجُوءِ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْأُمُورَ قَبْلَ أَوَانِهَا، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنْ شِرْكٍ، وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، مُتَمَّمٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَيْهِ.
تَعْجِيلُ الشَّيْءِ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَوَانِهِ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمُقَدِّرِ لَهُ أَوِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ بِهِ طَلَبُ التَّعْجِيلِ، وَالْعَجَلُ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الْقَابِلَةِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، كَيْ لَا تَطْغَى بِهِ فَتُورِدَهُ الْمَوَارِدَ. قَالَ تَعَالَى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (١٧: ١١) وَقَالَ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (٢١: ٣٧) فَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ فَلِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنَافِعِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالضُّرِّ وَالسَّيِّئَةِ فَلَا يَكُونُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ عَارِضٍ كَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ إِلَّا لِلنَّجَاةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُ الْيَائِسُونَ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ النَّجَاةِ مِنْ ذُلٍّ وَخِزْيٍ أَوْ أَلَمٍ لَا يُطَاقُ، إِذْ يَتَقَحَّمُونَ الْمَهَالِكَ أَوْ يَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا.
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ، كَاسْتِعْجَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ نُزُولَهُ بِهِمْ إِجْمَالًا، بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا كَخِزْيِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (١٣: ٦) الْآيَةَ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) (٢٩: ٥٣) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) وَقَالَ فِي السَّاعَةِ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) (٤٢: ١٨) وَفِي الْعَذَابِ: (يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (٢٩: ٥٤) وَكُلُّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا تَعْجِيزَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَالَغَةً فِي التَّكْذِيبِ، وَاسْتِهْزَاءً بِالْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: (اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ لِذَاتِهِ بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْجُمْلَةَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ لَقَضَى اللهُ إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ إِلَيْهِمُ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاسْتَعْجَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى

صفحة رقم 255

أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِالْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَضَى بِأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيَحْمِلُوا دِينَهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْعَجَمِ وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ تَأْدِيبًا لِسَائِرِهِمْ، بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (٩: ١٤) الْآيَةَ، وَيُؤَخِّرُ سَائِرَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ لَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَطُغْيَانُ السَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَالدَّمِ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَالْعَمَهُ (كَالتَّعَبِ) : التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ فِي الْأَمْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَالْمَعْنَى: فَنَتْرُكُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، لَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِئْصَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى فِي جَمَاعَتِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَفْرَادِهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَمَوْتِ بَعْضٍ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْكَافِرِينَ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ لَأَهْلَكَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣٥: ٤٥) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى هُنَا دُعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الْغَضَبِ، لَوْ يُعَجِّلُهُ اللهُ لَهُمْ لَأَهْلَكَهُمْ أَيْضًا (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ) (١٣: ١٤) بِرَبِّهِمْ أَوْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٣: ١٤) أَيْ ضَيَاعٍ لَا يَسْتَجِيبُهُ اللهُ لَهُمْ، لِحِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، هَذَا بَيَانٌ لِغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ الْعَامَّةِ وَشَأْنِهِ فِيمَا يَمَسُّهُ مِنَ الضُّرِّ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْجَالَ أُولَئِكَ النَّاسِ بِالشَّرِّ، تَعْجِيزًا لِنَبِيِّهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ طُغْيَانِهِمُ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى طَبِيعَتِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مِنَ الضُّرِّ مَا يَشْعُرُ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ أَوْ خَطَرِهِ مِنْ إِشْرَافٍ عَلَى غَرَقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْلُكَةِ، أَوْ شَدَّةِ مَسْغَبَةٍ، أَوْ إِعْضَالِ دَاءٍ دَعَانَا مُلِحًّا فِي كَشْفِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهِ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ، أَوْ قَاعِدًا فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، أَوْ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ، فَهُوَ لَا يَنْسَى حَاجَتَهُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ، مَا دَامَ يَشْعُرُ بِمَسِّ الضُّرِّ وَلَذْعِهِ لَهُ، يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهُ، قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَشَدَّ عَجْزًا وَأَقْوَى شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّهِ فَالَّتِي تَلِيهَا فَالَّتِي تَلِيهَا، وَثَمَّ حَالَةٌ رَابِعَةٌ هِيَ سَعْيُهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَلَمْ تُذْكَرْ

صفحة رقم 256
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية