
ولما نهاه عن الشرك، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى: ﴿ولا تدع﴾ أي في رتبة من الرتب الكائنة ﴿من دون الله﴾ أي الذي
صفحة رقم 217
بيده كل شيء ﴿ما لا ينفعك﴾ أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا ﴿ولا يضرك﴾ أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا ﴿فإن فعلت﴾ أي شيئاً مما نهيناك عنه ﴿فإنك إذاً﴾ إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك ﴿من الظالمين*﴾ أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله ﴿فإن فعلت﴾ :﴿وإن يمسسك الله﴾ أي الذي لا راد لأمره ﴿بضر﴾ أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار ﴿فلا كاشف له﴾ أي أصلاً بوجه من الوجوه ﴿إلا هو﴾ لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف ﴿وإن يردك﴾ أي مطلق إرادة ﴿بخير فلا﴾ أي أصابك لا محالة فإنه لا ﴿رآد﴾ ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله: ﴿لفضله﴾ أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآيه من الاحتباك: ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير
صفحة رقم 218
وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل: ﴿يصيب به﴾ أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير ﴿من يشاء﴾ أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله: ﴿من عباده﴾ وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله: ﴿وهو الغفور﴾ أي البليغ الستر للذنوب ﴿الرحيم*﴾ أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس: اجتماع التباين من غير نقص، ونظيره المطابقة، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف: رفع الستار، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى: ﴿قل يا أيها الناس﴾ أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب

﴿قد جاءكم الحق﴾ أي الكامل بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله: ﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم ﴿فمن﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه من ﴿اهتدى﴾ أي آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل بما في الكتاب ﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة ﴿ومن ضل﴾ أي كفر بهما أو بشيء منهما ﴿فإنما يضل عليها﴾ لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه ﴿وما أنا﴾ ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال: ﴿عليكم بوكيل*﴾ فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل.
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفاً على قوله ﴿قل يا أيها الناس﴾ :﴿واتبع﴾ أي بجميع جهدك ﴿ما يوحى إليك﴾ وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى ﴿واصبر﴾ في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر

من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه ﴿حتى يحكم الله﴾ أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿خير الحاكمين﴾ لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار قال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم
صفحة رقم 221
تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسبق في الإسلام حظ وافر.
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة. والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال: سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى: والوحي: إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء. وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر: تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل

عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق.
صفحة رقم 223
سورة هود
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك.
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما (بسم الله) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة) الرحمن (لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة (الرحيم) لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله (الر).