الحكمة في خلق الإنسان وتعليمه القراءة والكتابة
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)
الإعراب:
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير اقْرَأْ.
عَلَّمَ بدل اشتمال من عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أَنْ رَآهُ: في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، أي لأن رآه، وأصله «رأيه» فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. ورأى: يتعدى إلى فعلين لأنه من رؤية القلب، فالمفعول الأول: الهاء، والثاني: اسْتَغْنى.
وقرئ «رأه» بهمزة من غير ألف بعدها، على أساس حذف لام الفعل مثل حاشَ لِلَّهِ أو لأن مضارعه «يرى» وقد حذفت عينه بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، أو حذفت لسكونها وسكون السين في اسْتَغْنى.
البلاغة:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ سجع مرصّع.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ واقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ إطناب بتكرار الفعل، لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.
خَلَقَ وعَلَقٍ بينهما جناس ناقص.
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بينهما طباق السلب.
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
التفات من الغيبة إلى الخطاب، تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان. صفحة رقم 314
المفردات اللغوية:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ابتدئ قراءة القرآن مفتتحا باسم ربّك، أو مستعينا به. الَّذِي خَلَقَ الذي خلق كل شيء. خَلَقَ الْإِنْسانَ جنس الإنسان. مِنْ عَلَقٍ جمع علقة: وهي قطعة دم يسيرة جامدة، فإذا جرى الدم فهو المسفوح. اقْرَأْ تأكيد للأول. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي لا يوازيه كريم، الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علّم الخط والكتابة بالقلم، وأول من خط به إدريس عليه السّلام. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ علم جنس الإنسان بخلق القوى، وإقامة الدلائل، وإنزال الآيات، وبتعليمه الأشياء من غير معلّم كالكتابة والصناعة وغيرها. والمقصود: أنه يعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا. وقال: مِنْ عَلَقٍ بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكل الناس خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة:
قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفّت لم تكن علقة.
وقد أبان في هذه الآيات مبدأ خلق الإنسان الذي يدلّ على الأوصاف الإلهية وأهمها بيان وجوده وقدرته تعالى، ثم أشار إلى إثبات العلوم السمعية الموقوفة على النقل والكتابة، ثم إثبات النبوة.
كَلَّا أي حقا عند بعض المفسرين لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يتوجه إليه الردع، وقال الزمخشري: إنه ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه وطغى، وهذا معلوم من سياق الكلام، وإن لم يذكر. إِنَّ الْإِنْسانَ أي: فرد من النوع الإنساني. لَيَطْغى يتكبر ويتجاوز الحدّ في العصيان. أَنْ رَآهُ لأن رأى نفسه. اسْتَغْنى اغتنى بالمال وغيره، أي صار ذا مال وأعوان يغني بهما، والآية نزلت في أبي جهل، كما سأبيّن. إِنَّ إِلى رَبِّكَ
يا إنسان. الرُّجْعى
الرجوع، والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، أي المصير والعودة، والمراد تخويف الإنسان، فإن اللَّه يجازي الطاغي بما يستحقه.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ..: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل:
نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل اللَّه: كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآيات.
ثم إنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له:
مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا شديدا.
التفسير والبيان:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ مبتدئا باسم ربّك، أو مستعينا باسم ربّك، الذي أوجد وخلق كل شيء. وقد وصف اللَّه لنا نفسه بأنه الخالق للتذكير بأول النعم وأعظمها. والمراد: الأمر من اللَّه لنبيّه بأن يصير قارئا، بقدرة اللَّه الذي خلقه وإرادته، وإن لم يكن من قبل قارئا ولا كاتبا، فمن خلق الكون قادر على أن يوجد فيه القراءة، وإن لم يتعلمها سابقا.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أوجد بني آدم من قطعة دم جامد وهي العلقة، التي هي طور من أطوار خلق الجنين، فإنه يبدأ نطفة، ثم يتحول بقدرة اللَّه إلى علقة: وهي كأنها قطعة من الدم الجامد، ثم يكون مضغة: وهي كأنها قطعة لحم، ثم يظهر فيها بقية التخليق من عظام، فلحم، فإنسان كامل الخلقة.
ويلاحظ أنه تعالى أطلق الخلق أولا ليتناول كل المخلوقات، ثم خصّ الإنسان بالذّكر لشرفه، أو لعجيب فطرته، أو لأن الآية سيقت من أجله.
وإنما قال: باسم ربّك، ولم يقل: باسم اللَّه كما في التسمية المعروفة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأن الربّ: من صفات الفعل، واللَّه: من أسماء الذات، وبما أنه أمره بالعبادة، وصفات الذات لا تستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة صفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحثّ على الطاعة، والخلاصة: إنه لم يأت بلفظ الجلالة، لما في لفظ الرّب من معنى الذي ربّاك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب ليدل على التأنيس والاختصاص، أي ليس لك ربّ غيره.
وإنما أضاف ذاته إلى رسوله، فقال: بِاسْمِ رَبِّكَ للدلالة على أنه له،
تصل إليه منفعته، أما طاعة العبد فلا تحقق منفعة للَّه، فإذا أتى بما طلبه منه من طاعة أو توبة، أضافه إلى نفسه بوصف العبودية، فقال: أَسْرى بِعَبْدِهِ [/ الإسراء ١٧/ ١].
وإنما ذكر قوله الَّذِي خَلَقَ بعد قوله: رَبِّكَ للاستدلال على أنه ربّه، وهو الذي أوجده، فصار موجودا بعد أن كان معدوما، والخلق والإيجاد تربية، وكذلك جاء بصفة الخالق، أي المنشئ للعالم، للإتيان بصفة لا يمكن للأصنام شركة فيها، فيكون ردّا على العرب التي كانت تسمي الأصنام أربابا.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به من القراءة، وربّك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم من كل كريم، ومن كرمه: تمكينك من القراءة وأنت أمّي. وإنما كرر كلمة اقْرَأْ للتأكيد، ولأن القراءة لا تتحقق إلا بالتكرار والإعادة. وقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لإزاحة المانع، وإزالة العذر الذي اعتذر به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لجبريل حين طلب منه بقوله: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ.
والأوجه: أن يراد بقوله الأول: اقْرَأْ: أوجد القراءة، وبالثاني:
استعن باسم ربّك.
ثم قرن القراءة بالكتابة، فقال:
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان الكتابة بالقلم، فهو نعمة عظيمة من اللَّه عزّ وجلّ، وواسطة للتفاهم بين الناس كالتعبير باللسان ولولا الكتابة لزالت العلوم، ولم يبق أثر لدين، ولم يصلح عيش، ولم يستقر نظام، فالكتابة قيد العلوم والمعارف، ووسيلة ضبط أخبار الأولين ومقالاتهم، وأداة انتقال العلوم بين الأمم والشعوب، فتبقى المعلومات، ثم يبنى عليها ويزاد إلى ما شاء اللَّه، فتنمو
الحضارات، وتسمو الأفكار، وتحفظ الأديان، وتنشر الهداية.
وجاء في الأثر: «قيدوا العلم بالكتابة» «١».
لهذا بدأت دعوة الإسلام بالترغيب في القراءة والكتابة، وبيان أنها من آيات اللَّه في خلقه، ومن رحمته بهم، وكانت معجزة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الخالدة، وهو العربي الأميّ، قرآنا يتلى، وكتابا يكتب، وأنه بذلك نقل أمته من حال الأميّة والجهل إلى أفق النور والعلم، كما قال تعالى ممتنا بذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة ٦٢/ ٢].
ثم أبان عموم فضله وكثرة نعمه، فقال:
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي علّم اللَّه الإنسان بالقلم كثيرا من الأمور ما لم يعلم بها، فلا عجب أن يعلمك اللَّه أيها النبي القراءة، وكثيرا من العلوم، لنفع أمتك.
ورد في الأثر: «من عمل بما علم، ورّثه اللَّه علم ما لم يكن يعلم» «٢».
ثم ردع الإنسان على طغيانه حال الغنى، فقال:
كَلَّا، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي ارتدع وانزجر أيها الإنسان، عن كفرك بنعمة اللَّه عليك، وتجاوزك الحدّ في العصيان، لأن رأيت نفسك مستغنيا بالمال والقوة والأعوان.
وقيل: المراد بالآية: حقا إن أمر الإنسان عجيب، يستذل ويضعف حال الفقر، ويطغى ويتجاوز الحدّ في المعاصي ويتكبّر ويتمرد حتى أحسّ بنفسه القدرة والثروة. وأكثر المفسرين على أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وأمثاله.
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٢٨
ثم أنذر بالعقاب في الآخرة، فقال:
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي إن الرجوع والمصير إلى اللَّه وحده، لا إلى غيره، فهو الذي يحاسب كل إنسان على ماله من أين جمعه، وأين صرفه.
ويلاحظ أن هذا الكلام جاء على طريقة الالتفات إلى خطاب الإنسان، تهديدا له، وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
روى ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن مسعود: منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا، فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ عبد اللَّه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى وقال للآخر: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- بيان قدرة اللَّه تعالى بالخلق، فهو الخالق، والتنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة: قطعة دم جامد رطب غير جاف. وهذه الآيات الكريمات أول شيء نزل من القرآن، وهن أول رحمة من اللَّه لعباده وأول نعمة أنعم اللَّه بها عليهم.
٢- أمر اللَّه سبحانه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن باسم ربّه الذي خلق، واسم الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.
٣- أمر اللَّه تعالى أيضا بتعلم القراءة والكتابة لأنهما أداة معرفة علوم الدين والوحي، وإثبات العلوم السمعية ونقلها بين الناس، وأساس تقدم العلوم والمعارف والآداب والثقافات، ونمو الحضارة والمدنية.
٤- من كرم اللَّه تعالى وفضله: أن الإنسان ما لم يكن يعلمه، لينقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فقد شرّفه وكرّمه بالعلم، وبه امتاز أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم إما بالفكر والذهن، وإما باللسان، وإما بالكتابة بالبنان. قال قتادة: القلم نعمة من اللَّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش.
وفضائل الكتابة والخط كثيرة، فحيث منّ اللَّه على الإنسان بالخط والتعليم، مدح ذاته بالأكرمية، فقال: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم الإنسان بواسطة القلم، أو علّمه الكتابة بالقلم.
مع أنه سبحانه حين عدد على الإنسان نعمة الخلق والتسوية وتعديل الأعضاء الظاهرة والباطنة، وصف نفسه بالكرم قائلا: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار ٨٢/ ٦- ٧].
جاء في الحديث الصحيح: «أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذّكر فوق عرشه» «١».
وكانت أمّية الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم تعليمه من اللَّه أثبت لمعجزته بين العرب الأميين، وأقوى في حجته.
٥- أخبر اللَّه تعالى عن طبع ذميم في الإنسان وهو أنه ذو فرح وأشر، وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى، وكثر ماله.
لذا هدده اللَّه وتوعده ووعظه ليضبط طغيانه ويوقف تهوره بإخباره بأنه إلى اللَّه المصير والمرجع، وسيحاسب كل إنسان على ماله، من أين جمعه، وفيم صرفه وأنفقه.