آيات من القرآن الكريم

الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
ﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯ ﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇ

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بالنفقة في الخير وَاسْتَغْنى عن ربّه فلم يرغب في ثوابه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار، فكأنه قال:
نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير، وهو العذاب. وقيل: سندخله جهنم، والعسرى اسم لها.
فإن قيل: فأي تيسير في العسرى؟ قيل: إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال:
حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله ﷺ كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلّا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار»، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتّكل؟
فقال «اعملوا فكلّ ميسّر»، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيات «١».
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى قال مجاهد: مات، وقال قتادة وأبو صالح: هو لحد في جهنم، قال الكلبي: نزلت في أبي سفيان بن حرب.
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي بيان الحق من الباطل، وقال الفرّاء: يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى والإضلال، كقوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وسَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٤ الى ٢١]
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتوقد وتتوهج، وقرأ عبيد بن عمير (تتلظى) على الأصل، وغيره على الحذف لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى قرأ أبو هريرة: ليدخلنّ الجنة إلّا من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو خليفة قال: حدّثنا القعنبي قال: حدّثنا مالك قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ فيها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى

(١) مسند أحمد: ١/ ١٣٢. صحيح البخاري: ٦/ ٨٤.

صفحة رقم 218

، فلمّا أتى على هذه الآية فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى وقع عليه البكاء فلم يقدر أن [يتعدّاها] من البكاء، وقرأ سورة أخرى «١».
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى قال أهل المعاني: أراد الشقي والتقي، كقول طرفة:

تمنى رجال أن أموت، فإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد «٢»
أي بواحد.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا جدّي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن سالم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه أعتق من كان يعذّب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل.
فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار، فلمّا أسلمت عميت، فقالوا: أعمتها اللات والعزى.
فقالت: هي تكفر باللات والعزى، فردّ الله إليها بصرها، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول: والله لا أعتقك حتى يعتقك صباتك، فقال أبو بكر فحلى إذا يا أم فلان فبكم هي إذا؟ قالت: بكذا وكذا أوقية، قال: قد أخذتها، قومي، قالت: حتى أفرغ من طحني.
وأما بلال فاشتراه، وهو مدفون بالحجارة، فقالوا: لو أبيت إلّا أوقية واحدة لبعناك، فقال أبو بكر: لو أبيتم إلّا مائة أوقية لأخذته، وفيه نزلت يعني أبا بكر، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخرها، وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها كلّها، يعني أبا بكر.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال:
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال: حدّثنا سفيان، عن عتبة قال: حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول: كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: [إنما أريد ما أريد] «٣» فنزلت فيه وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخر السورة «٤»، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.
(١) تفسير القرطبي: ٢٠/ ٨٧ مورد الآية.
(٢) تاج العروس: ٢/ ٥٢٧، ونسبه إلى الإمام الشافعي. وكذا فعل ابن كثير في تفسيره: ٣/ ١٨٧.
(٣) عن تفسير القرطبي: ٢٠/ ٨٣ وفي المخطوط تشويش.
(٤) الآحاد والمثاني: ١/ ٢٠٣، وأسباب النزول للواحدي: ٣٠١ وفيه: ما منع ظهري أريد.

صفحة رقم 219

عن عطاء، عن ابن عباس، في هذه الآية أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبدا لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحدا أحد، فمرّ به النبي ﷺ فقال: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله ﷺ أبا بكر أن بلالا يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به «١».
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر:
أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي، وكان مشركا [وحمله] أبو بكر على الإسلام على أن يكون [له] ماله، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلمّا قال له أمية: أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلّا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله سبحانه وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ من أولئك الذين أعتقهم مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يد نكافئه عليها إِلَّا لكن ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى بثواب الله في العقبى عوضا مما فعل في الدنيا.
وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال: حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال: حدّثنا علي ابن حجر، عن إسحاق بن نجح، عن عطاء قال: كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي (عليه السلام) «بعنيها بنخلة في الجنة» [١٥٩]، فأبى قال: فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال: هل لك أن تبيعها بجبس «٢» ؟ يعني حائطا له، فقال: هي لك، قال: فأتى النبي (عليه السلام)، فقال: يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال: نعم، قال: هي لك، فدعا النبي (عليه السلام) جار الأنصاري، فأخذها، فأنزل الله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى أبو الدحداح وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يعني الجنة.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يعني الأنصاري وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يعني النار، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى يعني به إذا مات كما في قوله:

(١) أسباب النزول للواحدي: ٣٠١.
(٢) في تفسير القرطبي: بحسن.

صفحة رقم 220

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صاحب النخلة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني أبا الدحداح الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى يعني أبا الدحداح وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يكافئه بها، يعني أبا الدحداح إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى إذا أدخله الجنة. فكان النبي ﷺ يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية، فيقول: «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة» «١».

(١) انظر: تفسير القرطبي: ٢٠/ ٩٠، مع تفاوت.

صفحة رقم 221
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية